في نهار يفتح بواباته على اتساع الفكر الإنساني، انطلقت في مكتبة الملك فهد الوطنية أعمال مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025 في نسخته الخامسة، الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة على مدى ثلاثة أيام تحت عنوان: «الفلسفة بين الشرق والغرب: المفاهيم، والأصول، والتأثيرات المتبادلة». منذ اللحظة الأولى، بدا أن الرياض لا تستضيف مؤتمرًا فحسب، بل تعيد تقديم نفسها مدينة تفكر، وتنتج المعرفة، وتستدعي الأسئلة الكبرى في عالم تتزاحم فيه التحولات. الافتتاح رحب الرئيس التنفيذي للهيئة الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز الواصل بالضيوف، مؤكدًا أن المؤتمر بات مشروعًا فكريًا راسخًا، يتنامى حضوره عامًا بعد عام، ويعزز موقع المملكة منصة عالمية لإنتاج المعرفة وصناعة الفكر. وأشار الواصل إلى أن الفلسفة لا تُولد من الجغرافيا بل من السؤال، وأن استحضار ثنائية الشرق والغرب ليس تكريسًا للانقسام، بل كشفًا للوشائج العميقة التي تربط التجارب الإنسانية مهما تباعدت ثقافاتها. برنامج مختلفة يشارك في المؤتمر 60 مفكرًا وفيلسوفًا من مختلف دول العالم، عبر أكثر من 40 جلسة حوارية تتناول جذور الفلسفة، ومسارات التفكير، وقراءات نقدية حديثة، وتحولات المعنى الإنساني. ومن المتوقع استقبال 7000 زائر، في مؤشر يعكس تنامي الاهتمام بالفلسفة واتساع قاعدة المتابعين للعلوم الإنسانية. نقد المركزيات جاءت الجلسة الأولى بعنوان "الفلسفة ومركزيتها في التاريخ"، بمشاركة علي الرماح ومي الناهض ويوسف المبارك، وإدارة محمد العمر. تناولت الجلسة أثر هيغل في صياغة مفهوم الصراع الحضاري، قبل الانتقال إلى رؤية كارل بوبر الذي فكك المركزيات المغلقة ودعا إلى عقلانية تتأسس على الاعتراف بالخطأ، والانفتاح على الآخر، والخروج من "السجون الحضارية". وأشارت الجلسة إلى أن التاريخ لا يتجه نحو الانقسام بل نحو مستويات أوسع من التوافق، وأن التحول من "السيوف إلى الأقلام" يمثل لحظة معرفية تعيد صياغة منطق الحضارات باتجاه الحوار. كما ناقشت مفهوم "اللا الفلسفية" بوصفه طاقة تفتح الأفق، وتكسر المقولات الجاهزة، وتتيح ولادة الأسئلة التي تشكل نواة الوعي. تفاعل عميق في الجلسة الثانية "الفلسفة الشرقية - اليونانية: المنابع، والأثر، والتفاعل"، شارك المبروك الشيباني المنصوري، حامد الإقبالي، وبدور الفالح، بإدارة مشاعل الحماد. أشارت الجلسة إلى عودة فلسفية نحو الشرق منذ سبعينات القرن الماضي، تزامنًا مع صعود النقد ما بعد الحداثي وإعادة قراءة الأسس التي قامت عليها الفلسفة الغربية. وتوقفت عند أثر ابن سينا "المعلم الثالث"، وكيف أعاد صياغة مفهوم الوجود من أرسطو ليبني نسقًا جديدًا عبر حدود حضارية. المعرفة والحوار سلطت الجلسة الضوء على البنية الحوارية في القرآن الكريم بوصفها نموذجًا أخلاقيًا وتداوليًا في بناء السؤال والمعنى، وتطرقت إلى نظرية الفعل التواصلي، ومبدأ العدالة الأخلاقية عند أرسطو، ونظرية التأدّب التي تمنح الحوار طابعه الإنساني. وانتهت إلى أن التفاعل بين الشرق والغرب لم يكن يومًا حركة أحادية الاتجاه، بل مسارًا متبادلاً يتشكل فيه الفكر عبر عبور الثقافات. فلسفة إسلامية في الجلسة الثالثة "البنية الفلسفية والإسهامات المعرفية للفلسفة الإسلامية"، تحدّث أحمد العنيزان، وحصة المفرح، بإدارة عيد الجهني. ناقشت الجلسة تمثلات الشر في الأدب العالمي عبر نصوص ديستوبية مثل 1984، وعالم جديد شجاع، وحكاية الجارية، وكيف أعادت هذه الأعمال صياغة الشر ضمن سياقات السلطة والتكنولوجيا والتحولات الاجتماعية. كما تناولت ثلاث روايات عربية - القوقعة، عُطارد، يوتوبيا - التي قدمت سرديات تتقاطع مع أسئلة الوعي والقلق الوجودي. أوضحت الجلسة أن الاهتمام الغربي يتركز على المتون الكبرى، فيما تبقى أجزاء واسعة من التراث الكلامي والأصولي غير مستثمرة، رغم قيمتها الفلسفية العالية. وقدمت مقارنة معيارية بين مذهبي المنفعة والواجب، واقترحت إمكانية تطوير نظرية أخلاقية مستلهمة من المدونة الفقهية الإسلامية تجمع بين الاعتبار الأخلاقي والعواقبية. فكرة وتجربة ما يميز مؤتمر الفلسفة هذا العام هو أن الأسئلة لم تُطرح فقط على المنصات، بل امتدت إلى أركان تفاعلية صممت لتحويل الفكر إلى تجربة حية، تُمارس لا تُقرأ فقط. ركن «101» ركن يقدم الفلسفة في أبسط صورها، عبر أمثلة حياتية وتمارين قصيرة، ليقول للزائر: الفلسفة ليست نخبوية... إنها مهارة يومية. ركن الطفل مساحة تتيح للصغار استخدام خيالهم في طرح الأسئلة الأولى: ما الحقيقة؟ لماذا نختلف؟ ماذا يعني أن نفكر؟ إنه المكان الذي يولد فيه "الفيلسوف الصغير". مسار فلسفي رحلة عبر خرائط الفكر من أثينا إلى بغداد وقرطبة ونيودلهي وباريس وبرلين. هنا يرى الزائر كيف تتحرك الأفكار عبر الشعوب، وكيف تتشكّل الحضارات من سؤال واحد يتكرر بصيغ مختلفة. «مرايا الذات» فضاء تأملي، يلتقي فيه الزائر مع صوته الداخلي أمام مرايا وأسئلة مفتوحة: من أنت عندما تصمت؟ وأي صوت يقود حياتك... الداخلي أم ضجيج العالم؟ «رحلة الفكرة» مسار يوضح تطور الفكرة من ومضة أولى إلى نظرية، ومن صوت فرد إلى أثر حضاري. إنه المكان الذي يذكر بأن كل فكرة عظيمة بدأت بدهشة صغيرة. فلسفة الرياض من الافتتاح إلى الجلسات العلمية، ومن الخرائط الفكرية إلى الأركان التفاعلية، بدا مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة مساحة تتقاطع فيها الأزمنة والرؤى، وتلتقي فيها الأسئلة الكبرى حول الإنسان والمعنى والمصير. وهكذا، لا يظهر المؤتمر بوصفه فعالية سنوية فحسب، بل بوصفه منصة تُعيد للفلسفة دورها: أن تكون مرآة للعالم، وصوتًا للحقيقة، وجسرًا يمتد بين الشرق والغرب في بحث لا ينتهي.