يتصل التفكير العقلي بشكل لصيق بتجربة الإنسان وخبراته في الحياة، فالعقل حوى جميع ما يتسع له؛ ليدرك الحقائق ويميز الأمور ويوازن بين الأضداد، ليتبصر الهدى فلا تعنّت ولا جمود يعيق النظر والفكر، بيد أن الجدل في أنماط التأويل التي اتخذها الفكر العربي للتيارات الفلسفية الغربية في العقود المنصرمة، أحدث العديد من التساؤلات حول أصالة الفلسفة الإسلامية، وبذات الوقت ترصد تقولات المستشرقين بعقم هذه الفلسفة، وهل هي عربية أم إسلامية؟ وهناك بون كبير في الدلالة الفلسفية، وبرغم ذلك كله كيف استطاع الفلاسفة المسلمون أن يخوضوا تجربتهم الفلسفية بعيدا عن حِمى الفلسفة اليونانية، وإدعاءات التعصب بصلاحية العقل الآري عن العقل السّامي للفلسفة؟ وهل سقطت مقولة من تمنطق فقد تزندق في كوة الاندثار والتلاشي في سديم التيارات الفكرية الحديثة؟! فكان لا بد لنا من تجاوز كل هذه الأسئلة في سياقاتها السابقة التقليدية، والسير مع ركب الحداثة والتجديد الذي يواجه الإنسان المعاصر للوقوف على الفكر الفلسفي في قالب بنيوي معاصر جديد مع التأصيل السليم لنشأة الفلسفة الإسلامية من خلال أصول الفقه وعلم الكلام والحِكم والأمثال. إننا لا ننكر أن التفكير الفلسفي في الإسلام قد تأثر بالفلسفة اليونانية، وأن المسلمين أخذوا عن أرسطو وأفلاطون، غير أننا نخطئ إذا اعتبرنا كل ذلك مجرد محاكاة وتقليد، فالفلسفة الإسلامية ذات تيارات متعددة اجتمعت وتفاعلت وولدّت أفكارها في قالب تجديدي من نسيج هويتها وفكرها الإسلامي؛ حيث نجد أن الغربيين جعلوا من أمر التوافق بين الدين والفلسفة مناطا للابتكار في الفلسفة الإسلامية، فكان القرآن الكريم يتوجه بالخطاب إلى عقل الإنسان، ولا يحول بين الإنسان والفهم القويم والتفكير السليم وإظهار الحق، بل أيقظ ملكات الإنسان الفكرية، وحررّه من سلطان المرجعيات اللا عقلية، قال تعالى: (يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) وبذلك أعاد بناء مفاهيم الإنسان من خلال العلم والحكمة والعمل والأخلاق. وتظهر أيضاً أصالة الفلسفة الإسلامية في أصول الفقه الذي يحتوي على أفكار أصيلة في اللغات ودلالة الكلام، وفلسفة التشريع، فتوسع الفقهاء في علم الأصول، وكونوا بذلك فلسفة أصيلة رائعة، وعندما نشأ علم الكلام باعتباره ضرورة تقدر بقدرها وقتذاك كانت الغاية منه الدفاع عن الإسلام ومواجهة خصومه، فظهر الاجتهاد بالرأي، ونشأت المذاهب الفقهية فكانت انطلاقة النظر العقلي في الإسلام، ولن ينكر أحد أصالة العرب في الحكمة، فالفرق بين الحِكم والفلسفة هي أن الحِكم عبارة عن تركيز التجارب اليومية في جملة أو جمل، فقد شغف العرب بُحّب الإيجاز وصوغ التجارب، فقد روى عن النبى عليه الصلاة والسلام الكثير من الحكم (اليد العليا خير من اليد السُفلى... رأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس) فكانت أقرب إلى عقول الأوساط واستسغيت أكثر من الفلسفة. وبعد ما سبق ذكره من باب الإيجاز لا الحصر ندرك أن زمانية الوعي الفلسفي التاريخية بلا حدود تملك من الخصوصيات ما يجعلها تتقدم وتتأخر في مراحل التاريخ المختلفة، فباتت الفلسفة في السياق الإسلامي أكثر اتساعاً وشمولية، فهي الحكمة التي تتحاور مع الدين، والخلق الباحث في النفس وقيمتها وانفتحت على الشعر والرواية وأوجدت السلوك الفلسفي في الأنماط الأدبية، ووجدت في الاصطدام التاريخي الحضاري بين الغرب والشرق بنية الوعي العربي، ونشأة مفاهيم الذات والهوية والأصالة. فقدرة الفلسفة الإسلامية على الانفتاح على العلوم وتلوين نسق الحضارات في الطابع التعددي المنوع في مستوياتها الفكرية والعقلية والكلامية دليل على ما حققّه البرهان وأوجبه العقل. فإذا كانت الفلسفة العربية اليوم تعاني من عوائق وصعوبات نظرية وتاريخية لا حصر لها، إلا أنها تتجه نحو بناء تاريخها الخاص من خلال الدفاع عن العقلانية النقدية، وتأكيد دورها الحقيقي في الوقت المعاصر من خلال الحضور الفاعل في فكرنا لنتمكن من صياغة قضايا التاريخ بكثير من الدقة والوضوح، ونلغي أشباه المشكلات التي تطفو فوق سطح ثقافتنا، وتشوش أساليب استدلالنا.