في زاوية هادئة من ثقافة الصورة، ظهر فن بدأ في بداياته بسيطًا وخفيفًا، لكنه ما لبث أن كشف عن طاقته الكامنة في إعادة تشكيل الخيال الإنساني وفتح نوافذ جديدة للروح. ذلك هو عالم الكومكس الفن الذي يصوغ لغته من التقاء الكلمة بالخط، ومن تناغم الظل والحركة، ومن إدراك عميق بأن الصورة ليست تابعًا للنص، بل شريك كامل في صنع المعنى. في هذا العالم، لا تعود الصفحات المرسومة مجرد ترف بصري، بل تتحول إلى نص حي قادر على الامتداد خارج الورق. يكفي مربع واحد ليقول ما تعجز عنه صفحات، وتكفي حركة صغيرة في زاوية المشهد لتضيء طبقات لم يكن القارئ يلمحها في القراءة التقليدية. هنا تُصبح الصورة أكثر من شكل؛ تصبح إحساسًا يتحرك، ويستدعي ذاكرة، ويمنح الحكاية نبضًا لا يُكتب بل يُرى. وبين مدارس الكومكس العالمية من الأميركية التي شيدت أسطورة القوة، إلى اليابانية التي نسجت فلسفتها من الهشاشة الإنسانية، إلى الأوروبية التي رأت في الكومكس أدبًا بصريًا قائمًا بذاته تتشكل لغة سردية جديدة تلتقط روح العصر. لغة تعطي للمشهد ثقله، وللظل دلالته، وللون مساحته في التعبير، حتى يصبح العمل كله محاولة للاقتراب أكثر من الإنسان، لا عبر الكلمات وحدها، بل عبر الصورة التي تستكمل نقص العبارة وتمنحها بُعدًا آخر. وزارة الثقافة... حين يتخذ الخيال شكل مشروع وطني هذا الوعي العميق بقوة الصورة دفع وزارة الثقافة إلى احتضان مجال الكومكس والقصص المصورة بوصفه مسارًا فنيًا قادرًا على تمثيل الهوية السعودية بلغة بصرية معاصرة. فمع البرامج الداعمة، والورش الاحترافية، ومسارات التمكين التي جمعت الكتاب بالفنانين، بدأت الحكايات السعودية تُعاد صياغتها بأسلوب يتيح للنص أن يتحرك خارج لغته، وأن يتخذ جسدًا بصريًا يعبر عن روحه. تحول الأدب السعودي عبر هذا المشروع إلى تجربة تتجاوز القراءة التقليدية؛ تجربة تجعل الرواية تمشي بخطوط مرسومة، وتجعل القصة تنبض بالألوان، وتجعل الشخصيات تضع خطواتها على الصفحة كما لو أنها تعود للحياة مرة أخرى. وهكذا ينشأ جسر جديد بين الأدب والفن، تتدفق عبره الذاكرة، وتتعمق من خلاله السرديات المحلية، وتُصنع ذاكرة بصرية سعودية تضيف إلى المشهد الثقافي طبقة جديدة من الحضور. الكومكس... نص يفتح للخيال مساحة ممتدة وهكذا يعود الكومكس إلى مركز المشهد الثقافي بوصفه فنًّا يقدّم قراءة أخرى للعالم؛ قراءة تعتمد على اختزال اللغة إلى كثافتها، وعلى تحويل اللحظة الصغيرة إلى أثر ممتد. لم يعد الكومكس هامشًا للترفيه، بل منصة سردية تمنح القصة جاذبيتها الجديدة، وتعيد للأدب قدرته الأولى على الإبهار، حين كان الإنسان يصنع حكايته من رموز ورسوم على جدران الكهوف. في المشهد الثقافي، يظهر هذا الفن كأنه نص ملون يستعيد جوهر الحكاية، ويمنحها حرية أن تتشكل خارج الصيغ المألوفة؛ نص يجعل القارئ يرى ما كان يقرؤه، ويشعر بما كان يتخيله، ويقترب خطوة إضافية من تلك المنطقة التي يلتقي فيها الفن بالإنسان... فيصير الأدب أكثر اتساعًا، والصورة أكثر قدرة على حمل المعنى.