على اتساع أجنحة الرياض، تتفتح صفحات الحكاية من جديد في معرض الرياض الدولي للكتاب 2025، حيث يتقاطع شغف المعرفة مع تنوع الثقافات في مشهدٍ ثقافيٍ يعكس حيوية العاصمة وقدرتها على جمع القارئ والكاتب والناشر في فضاءٍ واحد. تتزاحم الخطوات بين أروقة المعرض الممتدة، تتقاطع فيها ملامح الأجيال، من شيوخٍ يعودون إلى كتب رافقتهم يومًا، إلى شبابٍ يبحثون عن معنى جديد للقراءة، وأطفالٍ يكتشفون دهشتهم الأولى بين الألوان والقصص. المعرض ليس مجرد سوقٍ للكتب، بل ملتقى للأرواح والأفكار، تتداخل فيه الأصوات والضحكات، وتتعالى فيه لغة الحوار والاختلاف، ليصبح الفعل الثقافي جزءًا من المشهد اليومي. وتحت شعار "الرياض تقرأ"، تتجاوز القيمة ما هو مادي إلى ما هو وجداني، حيث تتحول القراءة إلى تجربةٍ إنسانيةٍ تصنع المعنى وتوحّد الوعي. هذا العام، تستضيف المملكة جمهورية أوزبكستان ضيفَ شرفٍ للمعرض، في خطوةٍ تعكس حرصها على مدّ جسور التواصل الثقافي مع آسيا الوسطى، وتعزيز العلاقات التاريخية التي تجمع العالم الإسلامي. الحضور الأوزبكي، بما يحمله من إرثٍ علمي وحضاري عريق، يُثري تجربة المعرض، ويضيف إليه بعدًا معرفيًا وروحيًا يعكس انفتاح المملكة على التنوع الثقافي وحرصها على الحوار الحضاري بين الأمم. يؤكد الكاتب والروائي الكويتي مشاري بودريد، المشارك في جناح مكتبة "آفاق"، أن القارئ السعودي "لا يعرف مدة صلاحية"، فهو حاضر في كل المراحل، فاعل ومؤثر في الساحة الخليجية. ويضيف أن مشاركاته في معارض المملكة من الرياض إلى جدة والمنطقة الشرقية كشفت له عمق الوعي الثقافي لدى القراء السعوديين الذين يفرضون أنفسهم كقوةٍ قارئةٍ متنامية في الخليج العربي. من جانبه، يرى محمد عبيد المسكري من سلطنة عُمان أن مشاركة بلاده تأتي حرصًا على إتاحة النتاج الأدبي العُماني أمام القارئ السعودي، مشيرًا إلى أن تنوع الحراك الثقافي في المملكة يعكس اهتمامًا واسعًا بالاطلاع على مختلف الثقافات. ويصف معارض الكتب بأنها "جسور للتواصل الثقافي بين القارئ والناشر، تُثري المشهد المعرفي وتمنح القارئ نافذة على العالم". في أحد أركان المعرض، لافتة صغيرة كتبت عليها "لا نبيع ورقًا"، تختصر رؤية شركة إثراء المتون التي تقدم نموذجًا جديدًا للكتاب باعتباره مشروعًا معرفيًا متكاملًا. يوضح الدكتور أحمد السالم، مدير الفريق التقني بالشركة، أن فكرة (إثراء المتون المحدودة) انطلقت عام 2016 لتطوير المقررات الشرعية بما يراعي معايير الاعتماد الأكاديمي، ثم توسعت لتنتقل إلى بيئة رقمية حديثة عبر منصات إلكترونية تعليمية مثل: "مقياس" و"ملكان"، لتواكب تطور التعليم الرقمي. ويشير السالم إلى أن المعارض السعودية تمثل نموذجًا تنظيميًا مميزًا على مستوى العالم، وأن الإقبال الكبير من الزوار يعكس المكانة المتنامية للمشهد الثقافي السعودي. ويرى أن هذه الفعاليات لا تكتفي بعرض الكتب، بل تجمع في مكانٍ واحد عقولًا معرفية مختلفة، وتُسهم في ترسيخ القراءة كقيمةٍ اجتماعيةٍ تُبنى عليها نهضة الأمم. يصف سعود الهملاني، المدير التنفيذي لجمعية خبرة التعليمية، المعرض بأنه "نهر ثقافي متجدد"، تتفرع منه كل حركة معرفية تنموية، مشيرًا إلى أن النسخة الحالية تتجاوز سابقاتها في حجم الفعاليات وتنوعها، وفي قدرتها على جذب فئات جديدة من المجتمع إلى القراءة. ويؤكد أن المعرض يمنح غير القارئ فرصة الدخول إلى عالمٍ مختلف، ليكتشف ذاته وسط هذا الزخم الثقافي، وقد يتحول مع الوقت إلى أحد صناع المشهد المعرفي المستقبلي. في جلسة "قراءة في التاريخ الوطني من التأسيس إلى الرؤية"، يؤكد الدكتور سعد العريفي أن معرض الكتاب يمثل منصة وطنية كبرى لإبراز السردية السعودية الحديثة، من خلال الجمع بين الأصالة والحداثة، وتقديم التاريخ الوطني بلغة عصرية قريبة من الشباب. ويرى العريفي أن المعرض يمكن أن يُحوِّل التاريخ من نصوص جامدة إلى قصصٍ ملهمةٍ تُبرز رموز الوطن وقيمه، وأن الدمج بين الكتاب الورقي والتقنيات الحديثة كالواقع المعزز يسهم في ترسيخ الهوية بطريقة تتماشى مع أدوات الجيل الجديد. ويضيف أن المعرض يشكل واجهة دولية لصورة المملكة الثقافية، حيث تتيح ترجمات الإصدارات الوطنية للزوار الأجانب الاطلاع على عمق التجربة السعودية، فيدركون أن المملكة ليست دولة وليدة النفط، بل حضارةٌ ضاربة الجذور في عمق الجزيرة العربية. كما يمنح المعرض نافذة على رؤية السعودية 2030 وما تحمله من مشروعات تنموية وثقافية تعكس توازن المملكة بين الأصالة والانفتاح. ويشير العريفي إلى أن هذه الفعاليات الثقافية تمثل رأسمال معرفي يثري الصناعات الإبداعية، إذ يمكن تحويل الكتب إلى أفلام ومسلسلات وألعابٍ إلكترونيةٍ تُغذي الاقتصاد الثقافي. كما أن استضافة دور النشر العالمية والمؤسسات الفكرية تسهم في بناء جسور تواصل حضاري تُعرّف العالم بالسردية الوطنية بروحٍ معاصرة، تجعل من الثقافة السعودية مصدر إلهامٍ ومشاركةٍ عالمية. في ختام المشهد، يثبت معرض الرياض الدولي للكتاب أنه أكثر من تظاهرة ثقافية عابرة، فهو فضاء يلتقي فيه الماضي بالحاضر، والكاتب بالقارئ، والثقافة بالحياة. ومن بين رفوف الكتب وحوارات الزوار، تتشكل ملامح وطنٍ يرى في القراءة ركيزةً لبناء الوعي وتوسيع الأفق. فالرياض لا تقرأ وحدها، بل تدعو العالم لأن يقرأ معها، لتظل الثقافة جسورًا تمتد بين الحضارات، والكتاب نافذةً مشرعة على المستقبل. مشاري بودريد محمد المسكري سعود الهملاني سعد العريفي