ليست أمراضًا تسببها الجراثيم أو الملوثات، بل أمراضاً ناتجة عن الوفرة، وقلة الحركة، والإفراط في الاعتماد على التقنيات، في عصر تتوفر فيه كل الأشياء بضغطة زر، من الطعام والترفيه إلى المساعدين الرقميين الذين يكملون جملنا. فالسمنة، السكري، وحتى التدهور المعرفي أصبحت من أعراض الراحة المفرطة. في السابق، كان البقاء على قيد الحياة يتطلب حركة دائمة. الصيد، الزراعة، البناء، المشي، كانت جزءًا من الحياة اليومية. اليوم، قضت التقنيات على الكثير من هذه النشاطات التي كانت ضرورية لصحة الإنسان. البيوت الذكية، الوظائف المكتبية، تطبيقات التوصيل، ووسائل النقل السهلة جعلت الحركة خيارًا لا حاجة. لكن أجسادنا لم تُصمَّم لهذا الركود؛ فعندما تقل الحركة، تضعف العضلات، يتباطأ التمثيل الغذائي، وترتفع مستويات الالتهاب. ما كان يُعد رفاهية في السابق -الراحة- أصبح هو الوضع الطبيعي في وقتنا الحالي. السمنة هي السمة الأبرز من مصيدة الراحة. فقد ارتفع استهلاك السعرات الحرارية بشكل كبير، بفعل الأطعمة المصنعة، والمشروبات السكرية، وأحجام الوجبات الضخمة. وفي الوقت نفسه، تراجع النشاط البدني بشكل ملحوظ. حتى الأطفال، الذين كانوا مثالًا للحيوية، يقضون الآن ساعات طويلة أمام الشاشات. أكثر من مليار شخص حول العالم يعانون من السمنة. وهذا لا يعكس ضعفًا في الإرادة، بل يعكس بيئات صُممت على أساس الإفراط. من الإعلانات الغذائية إلى تصميم المدن، تُدفع مجتمعاتنا نحو الاستهلاك وتُبعد عن الجهد. والنتائج الصحية لذلك كارثية: زيادة في أمراض القلب، والجلطات، والمشاكل المفصلية، والأخطر: داء السكري من النوع الثاني. والجدير بالذكر أنه لم يعد السكري من النوع الثاني مرضًا يخص كبار السن فقط. بل أصبح يصيب المراهقين بل وحتى الأطفال. ويحدث هذا المرض عندما يفقد الجسم استجابته الطبيعية للأنسولين، وغالبًا ما ينتج ذلك عن زيادة الدهون، وقلة الحركة، وسوء النظام الغذائي. لكن المشكلة أعمق من ذلك. فالتوتر المزمن، اضطرابات النوم، الإضاءة الصناعية، والتحفيز الرقمي المستمر، كلها تؤثر على توازن الهرمونات وتنظيم السكر في الدم. هذه العوامل الدقيقة تتراكم لتجعل عمليات الأيض لدينا أكثر هشاشة. وإذا تُرك السكري دون علاج، فهو يؤدي إلى مضاعفات تؤثر على كل عضو: الكلى، العيون، الأعصاب، والقلب. ومن قلة الحركة إلى قلة التفكير، فالذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل حياتنا وطريقة ومستوى تفكيرنا. المهام التي كانت تتطلب ذاكرتنا وتركيزنا وقدرتنا على التحليل أصبحت تُنجز من خلال التطبيقات والبرمجيات: من التنقل والكتابة إلى الحساب وحتى الإبداع. لكن هذا التفويض العقلي له ثمن. كما تضعف العضلات غير المستخدمة، تضعف العقول غير المُحفزة. الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية قد يؤدي إلى ما يُعرف ب "الخَرَف الرقمي"، وهو ضعف في القدرة على التذكر، والكسل الذهني، وتراجع في التفكير النقدي. إلى جانب ذلك، فإن الاقتصاد القائم على جذب الانتباه والمُدار بالخوارزميات يضخ لنا محتوى مستمرًا مصممًا لجذبنا. هذا التحفيز المتواصل يخطف نظام المكافأة في الدماغ، ويشجع على التلقي السلبي بدلاً من التفكير العميق، مما يؤدي إلى تشتت الانتباه والإرهاق العقلي. وسواء على المستوى البدني أو العقلي، فإن نمط الحياة المفرط في الراحة يعيد تشكيل الصحة البشرية - وغالبًا نحو الأسوأ. لقد صممنا عالمًا يُقوّض الصفات التي ساعدتنا على البقاء: الصبر، التركيز، الجهد، والمثابرة. نحن مخلوقون للتحدي. أجسادنا تتوقع الصعوبات، لا السهولة. الجوع، التعب، وحتى الملل، كانت إشارات تدفعنا للعمل، لكنها الآن تُخدر براحة دائمة. والنتيجة مجتمع يعاني من أمراض من صنع الإنسان، يمكن الوقاية منها، وجذورها في نمط الحياة، لا في الجينات. ومع ذلك، هناك أمل، لكنه يبدأ بحقيقة صعبة: الراحة إدمان. والخروج منها لا يحتاج ثورة، بل قرارات صغيرة تُتخذ بوعي. أن نصعد الدرج بدلًا من المصعد. أن نعد طعامنا بدلًا من طلبه. أن نقلل من وقت الشاشة ونقرأ كتبًا تحفّز تفكيرنا. أن نمشي، لا لنصل، بل لنحيا. أن نختار الأصعب حين لا يكون ضروريًا، فقط لأن أجسادنا وعقولنا تحتاجه. الراحة والتقنية ليستا عدوتين، لكن حين تسيطران بلا توازن، تتحولان إلى قاتل صامت. الصحة الحقيقية لا تعني غياب الألم أو الجهد، بل تعني أن نحيا بقصد، وبحركة، وبتحدٍ واعٍ. أمراض الراحة تذكّرنا بأن السهولة المفرطة قد تسلبنا جوهرنا الإنساني. والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا ليس: "كيف نجعل حياتنا أسهل؟ بل: "كيف نجعلها أفضل وأكثر انسجامًا مع ما خُلقنا له؟" ربما يكون مفتاح الحياة الأفضل، ببساطة، أن نُعيد للجهد مكانته ونبقى في مساحة عدم الراحة - لا كعقوبة، بل كطريق للعودة إلى الحياة التي خُلقنا من أجلها.