في بيوتنا، تدور حوارات صامتة، وأحيانًا معلنة، تعكس تحولات عميقة في مفاهيم الحياة المشتركة، ويبدو أن التركيز يتزايد على مساحات الفرد، في مقابل الاندماج الذي عرفته الأجيال السابقة، فيطرح البعض فكرة الاستقلالية الشخصية كحق أساسي، يرغب فيه أحد الزوجين أو كلاهما، للحفاظ على مساحة واسعة للذات، واتخاذ قرارات فردية تتعلق بالعمل أو الاهتمامات أوغيرها ، بعيداً نسبياً عن الشريك، ويُنظر للزواج حينها كإطار للمشاركة في جوانب محدودة، لا اندماج كامل، لكن بالنظر إلى مفهوم الزواج في شريعتنا الغراء ك «ميثاق غليظ» يقوم على السكن والمودة والرحمة والشراكة والتشاور، نجد أن هذه النزعة، وإن كانت تكفل للشخص ذمته المالية وشخصيته الاعتبارية ضمن حدود، إلا أنها تتعارض مع مقاصد الزواج حين تُفرط في الاستقلالية لدرجة تهميش الشريك أو إضعاف الروابط الأسرية، وهو ما يخالف كذلك عرف مجتمعنا الذي يقدس الترابط الأسري. ويبرز في هذه الحوارات شعار «تقبلني كما أنا»، الذي يُستخدم أحيانًا كذريعة لرفض التكيُّف والانسجام مع متطلبات الحياة الزوجية، أو لتبرير سلوكيات قد لا تكون مناسبة للشريك أو الأسرة، بحجة أنها جزء لا يتجزأ من «الشخصية»، فشريعتنا تدعو إلى المعاشرة بالمعروف والتغاضي، لكنها تحث أيضاً على التناصح والسعي نحو الأفضل وتحقيق الانسجام ، مؤكدة أن الزواج يتطلب مرونة وتنازلاً وتكيفاً من الطرفين، والتمسك بالجمود يعيق النضج ويُهدد العلاقة، وهو ما لا يتفق مع حكمة الشريعة ولا طبائع مجتمعنا القائمة على التآلف والتسامح. ونتيجة لهذا التركيز المبالغ فيه على «الكيان الشخصي»، نلاحظ ظهور شكل من «الحياة المتوازية»، حيث يعيش الزوجان تحت سقف واحد كغريبين تقريباً، يلتقيان في محطات محدودة، وتصبح المشاركة ضعيفة، وهذا التوجه خاطئ ومدمر. فالزواج يهدف إلى السكن النفسي والاجتماعي والمودة والرحمة، والحياة المتوازية تفقد الزواج جوهره، وتؤدي إلى الجفاء، وتنعكس سلباً على الأبناء واستقرار الأسرة، ما يتنافى كليًا مع قيم الشريعة والمجتمع. ويتساءل البعض عما إذا كانت النزعة الفردية لدى أحد الزوجين تمثل نوعًا من «التطرف»، ووصفها ب«التطرف» قد يكون مبالغاً فيه ويحتاج تقييماً لكل حالة، فسعي أحدهم لتحقيق ذاته ضمن الإطار الشرعي والاجتماعي حق مشروع، لكن إن كانت هذه النزعة نابعة من أفكار تتعارض مع ثوابت الشريعة و المجتمع في العلاقة الزوجية، أو تؤدي لإهمال الواجبات الأسرية، أو كانت تقليدًا أعمى لثقافات لا تتفق مع قيمنا، فيمكن اعتبارها انحرافًا أو توجهًا خاطئاً يحتاج تقويماً وتوجيهاً بالحكمة. وهذه التوجهات نحو الفردانية المطلقة ، تثير قلقًا مشروعًا حول مستقبل تماسك الأسرة في مجتمعنا، فالأسرة هي الوحدة الأساسية، وتقوم على التراحم والتكامل، وإضعاف الشراكة الزوجية والتركيز المفرط على الحقوق الفردية دون الواجبات، وتبني مفاهيم غريبة، كلها عوامل تُهدد استقرار الأسرة وتماسكها على المدى الطويل، وإنها دعوة صادقة لوقفة جادة للتأمل والحوار البناء، فبناء الأسرة القوية هو أساس مجتمع مستقر مزدهر.