حقيقة لا أصنف نفسي بأني ممن يكتبون مراجعات للكتب ولا من الذين يكثرون الكتابة عن الكتب التي قرأوها، ولا أتذكر بالمناسبة خلال مسيرتي الكتابية إلا مقالاً واحداً كتبت فيه عن أحد الكتب بعنوان «النظم القرآني مقاصد ودلالات» لأن كتب القرآن وعلومه وكل المواضيع المتعلقة به تستهويني وهي من رأيي أولى من غيرها بالحديث والكتابة عنها. وفي هذه المقالة سأتحدث عن كتاب شدني عن العلاقة بين خواتيم الآيات بما داخلها بعنوان «مناسبات ختام الآيات» من جمع وإعداد «ابتسام العمودي ورولا حجازي»، وهذا الكتاب بحسب قول ابتسام وبحثها «لم تطلع وتعثر على من اعتنى بجمعه في باب منفرد كما فعلوا»، وذكروا طريقتهم ومنهجهم في البحث عن المناسبات، وعن كتب التفسير التي استندوا إليها وجمعوها من خلالها والتي من أهمها «تفسير الرازي، وابن عاشور، والسعدي، وطهماز، والتحرير والتنوير، والألوسي، والبقاعي، والشوكاني، والزمخشري»، وكتبوا مقدمة عن علم المناسبات «تعريفه وأهميته وأنواعه ونشأته وأهم المؤلفات فيه». ومن أمثلة هذه الخواتيم؛ قوله عزوجل: «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا» الكهف71، فقوله «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا» وبعده «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْراً» هو لأن «الأمر» عجب والعجب يستعمل في الخير والشر، بعكس «النكر» لأن ما ينكره العقل فهو شر، وخرق السفينة لم يكن معه غرق فكان أسهل من قتل الغلام وإهلاكه فصار لكل واحد معنى يخصه. ومثال آخر في سورة النور قوله عزوجل: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ» النور10 و«وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» (النور 20)، ففي الآية الأولى تقدمها ذكر الزنا والجلد فناسب الختام بالتوبة وأنها مقبولة من التائب وناسب أنه «حكيم» لأن الحكمة اقتضت العقوبة المقدرة لما فيها من زجر عن الزنا وما يترتب عليه من المفاسد، وأما سبب قوله في الآية الثانية «رءوف رحيم» لأنها مذكورة بعد ما وقع به أصحاب الإفك فبين - سبحانه وتعالى - أنه لولا رأفته ورحمته لعجل لهم العقوبة لعظيم ما وقعوا به من الكذب والبهتان، ولذلك قال عزوجل في آية تقدمتها: «لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» النور 14. ومن الأمثلة على مناسبات ختام الآيات؛ قوله عزوجل: «فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا» الكهف61 وقوله: «قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى 0لصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ 0لۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا 0لشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَ0تَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي 0لۡبَحۡرِ عَجَبٗا» الكهف63، فجملة «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا» هي من كلام الله، عزوجل، فقال في ختامها «سربا» أي: مسلكاً ومنفذاً نسرب الحوت من خلاله في البحر فصار مع حيواناته حياً بإذن الله، وأما جملة «وَ0تَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي 0لۡبَحۡرِ عَجَبٗا»، فهي من كلام الغلام عندما رأى الأمر الخارق عن العادة وكان ذلك من العجائب «عجباً»، فكان ذلك المنفذ للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا. ومن الأمثلة اللطيفة كذلك في هذا الباب مثال في سورة القصص حيث يقول عزوجل: «قل أَرءيتم إن جعل 0للَّه عليكم 0لَّيل سرمدًا إلى يوم القيامة من إِلَٰه غير 0للَّهِ يأتيكم بضياء أفلا تسمعون 71 قل أرءيتم إن جعل 0للَّهُ عليكم 0لنَّهارَ سرمدًا إلى يوم القيامة من إلَٰهٌ غير 0للَّه يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون 72»، فختم الآية الأولى ب«أفلا تسمعون» لأن قوة السمع وسلطانه أبلغ وآكد في الليل من البصر، وختم الآية الثانية ب«أفلا تبصرون» لأن سلطان البصر أبلغ في النهار من الليل، وجيء مع الليل بما يناسبه «أفلا تسمعون» لأن الليل يحول دون المبصرات ولا يدرك فيه إلا المسموعات، وجيء مع النهار بما يناسبه كذلك «أفلا تبصرون» لأن المبصرات تدرك في النهار فقط، فجيء كلاً مع ما يناسبه. هذه بعض الأمثلة من الكتاب عن مناسبات ختام الآيات بما قبلها ذكرتها بتصرف، وهي أكثر بكثير من ذلك، والله أعلى وأعلم.