تتفق التحليلات الاقتصادية على أن قيادة موجة الإنفاق الجديدة ستكون عبر ثلاثة قطاعات رئيسة: الاتصالات (بنية تحتية رقمية متقدمة)، والتقنية (الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، الأمن السيبراني)، والطاقة المتجددة (استثمارات قد تتجاوز 150 مليار ريال)، وإلى جانبها ستواصل قطاعات مثل الرياضة والترفيه نموها، مع توقعات بوصول استثماراتها إلى أكثر من 30 مليار ريال خلال الأعوام المقبلة.. تشهد الشركات السعودية المدرجة في السوق المالية تحولًا نوعيًا في أنماط الإنفاق الاستثماري خلال النصف الأول من عام 2025، وهو تحول يتجاوز حدود الأرقام إلى ما هو أعمق، من حيث إعادة صياغة فلسفة الاستثمار نفسها داخل القطاع الخاص والكيانات شبه الحكومية، فالدورة الحالية من الإنفاق لا يمكن اختزالها في توسعات منفردة أو قرارات آنية، بل تمثل جزءًا من إعادة هندسة واسعة لهيكل الاستثمار الوطني، مدفوعة ببيئة تمويل أكثر انضباطًا، ورؤية اقتصادية واضحة المسار، وقطاعات تعيد تعريف أولوياتها واستراتيجياتها داخل مشهد اقتصادي سريع التبدل. وبحسب رصد شامل نشرته قناة "الشرق اقتصاد"، بناءً على بيانات عشرات الشركات، يدعم هذا التحول تقديرات وكالة S&P Global التي تتوقع أن يتراوح الإنفاق الرأسمالي السنوي للشركات السعودية بين 85 و95 مليار دولار خلال الفترة (2025-2027)، مقارنة بنحو 85 مليار دولار في 2024، وهو ما يعكس استمرار زخم استثماري لا يتراجع، بل يعاد توجيهه بذكاء أكبر. هذا المشهد يعكس انتقال الاقتصاد السعودي من مرحلة "المشاريع العملاقة طويلة المدى" إلى مرحلة "المشاريع المتوسطة والعائد السريع"، وهو انتقال لا يعني خفض مستوى الطموح، بل ترسيخ نموذج استثماري أكثر رشاقة، يتعامل بفعالية مع التكلفة التمويلية الجديدة ومع متطلبات النمو المتسارعة. أبرز ملامح المرحلة الحالية تتمثل في تزايد حساسية الشركات تجاه تكاليف الاقتراض واشتراطاته، نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة من 3.2% إلى 6.8% خلال ثلاث سنوات، وخلق هذا الارتفاع بيئة يتقدم فيها الانضباط المالي على التوسع غير المحسوب، وظهر ذلك في توجهات واضحة، مثل: انتقاء المشاريع بدلًا من إطلاق توسعات واسعة، تقليص متوسط حجم المشاريع مقابل زيادة عددها، تعزيز الاعتماد على التدفقات النقدية الحرة بدلًا من التمويل المرتفع التكلفة، وإعادة هيكلة قواعد التمويل واللجوء لمسارات تمويل عالمية أكثر تنوعًا، وتعكس هذه التحولات عقلانية مالية أكثر ملاءمة لمرحلة تتطلب إدارة دقيقة لرأس المال في ظل بيئة عالمية مضطربة. ترسّخ البيانات الصادرة عن إس آند بي حقيقة أن القطاعات كثيفة الأصول –خصوصًا الطاقة والمرافق– ماتزال صاحبة الوزن الأكبر في الإنفاق الرأسمالي، مدفوعة بأدوار استراتيجية في منظومة الطاقة العالمية، وبالتوجه الوطني نحو تعزيز أمن الإمدادات، ورفع الكفاءة التشغيلية، وتوسيع قدرات الطاقة المتجددة، لأن هذه القطاعات أصبحت أكثر ارتباطًا بمشاريع الاستدامة، وخفض الانبعاثات، والتحول نحو الهيدروجين والطاقة النظيفة، ما يجعل إنفاقها استثمارًا في مستقبل الطاقة السعودي والعالمي. التحول الرقمي، هو اليوم أحد أكبر محركات الإنفاق الرأسمالي في المملكة، فالإنفاق القوي الذي شهدته شركات الاتصالات يعكس سباقًا لتوسيع الجيل الخامس وما بعده، واستثمارات ضخمة في مراكز البيانات والحوسبة السحابية، وتحضيرًا لمرحلة الذكاء الاصطناعي التجاري والصناع، فضلًا عن بناء منصات أكثر أمنًا في ظل تصاعد المخاطر السيبرانية، وبهذا يصبح قطاع الاتصالات، ومعه قطاع التقنية بأكمله، أحد الأعمدة الاستراتيجية للإنفاق المستقبلي حتى 2030. يُعد قطاع البتروكيماويات مثالًا واضحًا على إعادة ضبط العائد الاستثماري، الذي يتحرك اليوم بمنطق جديد يقوم على مراجعة دقيقة لدورات رأس المال، تفضيل المشاريع القصيرة نسبيًا ذات العائد السريع، تعزيز الكفاءة التشغيلية أكثر من توسيع السعة الإنتاجية وحدها، إضافة إلى تشدد مجالس الإدارات في معايير الموافقة على الاستثمارات، ما يعني إعادة تموضع القطاع داخل منظومة الاقتصاد العالمي، خصوصًا مع تزايد المنافسة وانخفاض هوامش الربحية عالميًا في بعض المنتجات. رغم ما سبق، ثمة تصاعد ملحوظ في الإنفاق الاستثماري ضمن قطاع الأغذية، بدافع من هدف وطني ثابت هو تعزيز الأمن الغذائي، ويتجلى ذلك في: توسع الطاقات الإنتاجية المحلية، واستثمارات في الصناعات الغذائية المتقدمة، وتحسين سلاسل الإمداد والمخازن الاستراتيجية، وتبني تقنيات الزراعة الذكية، حيث يمثل هذا القطاع أحد أهم روافد الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء. لم يعد الاستثمار العقاري يتجه إلى المدن العملاقة أو المشاريع البعيدة المدى، بل نحو الإسكان الميسر، المجمعات الصناعية، المشروعات ذات الأثر الاقتصادي السريع، البنية الأساسية الداعمة لسوق العمل والسكان، ما يعني نضجًا في قراءة السوق، وفهمًا أدق لأدوار القطاع في توازن العرض والطلب. تؤكد تقارير إس آند بي أن الشركات السعودية تمتع بتدفقات نقدية حرة مرتفعة، تُمكّنها من تمويل توسعاتها دون اللجوء لرفع مستويات الدين.. وفي الوقت نفسه، تتجه الشركات إلى تنويع مصادر التمويل العالمية، تقليل الاعتماد على أدوات الدين العام، والاستفادة من برامج الدعم الحكومي، حيث وفر برنامج "شريك" تمويلًا لمشاريع بقيمة 30 مليار ريال خلال عامين، بينما ضخّ صندوق التنمية الوطني أكثر من 70 مليار ريال، ما عزز قدرة الشركات على تنفيذ مشاريعها دون ضغط تمويلي كبير. تتفق التحليلات الاقتصادية على أن قيادة موجة الإنفاق الجديدة ستكون عبر ثلاثة قطاعات رئيسة: الاتصالات: (بنية تحتية رقمية متقدمة)، والتقنية (الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، الأمن السيبراني)، والطاقة المتجددة (استثمارات قد تتجاوز 150 مليار ريال)، وإلى جانبها ستواصل قطاعات مثل الرياضة والترفيه نموها، مع توقعات بوصول استثماراتها إلى أكثر من 30 مليار ريال خلال الأعوام المقبلة، بدعم من التحول الكبير الذي تشهده المملكة في تسويق نماذج اقتصادية جديدة، ويمثل ذلك مرحلة مفصلية في بناء اقتصاد أكثر رشاقة وابتكارًا وقدرة على خلق العائد المستدام.. دمتم بخير.