تكشف حادثة إنقاذ شابين سعوديين لمهندسين صينيين من السيول، ثم قيام الشركة الصينية برد الجميل عبر إصلاح الطريق مجاناً، عن سلسلة أخلاقية تتجاوز حدود الجغرافيا والعرق والدين. فيمكننا النظر إلى الحدث من منظور مقارن للحضارات، فنسلّط الضوء على القواسم المشتركة العميقة بين الحضارتين الصينية والإسلامية في منظومات القيم، خصوصاً في أخلاقية الحفاظ على النفس والإنسانية، وتقديم الواجب على المنفعة، وفلسفة الانسجام. ونجد في الأخير أن هاتين الحضارتين العريقتين تلعبان دوراً محورياً في الحفاظ على البعد الأخلاقي للإنسانية وتعزيز الحوار الحضاري، كما تقدمان مواد فكرية مهمة لبناء مستقبل مشترك للبشرية. أولاً: الدلالات الحضارية للحدث – من عمل الإنقاذ إلى رنين القيم عبر الثقافات يبدو إنقاذ الشابين السعوديين للمهندسين الصينيين عملاً إنسانياً فردياً في ظاهره، لكنه يمثل في عمقه ارتداداً لقيم حضارتين كبيرتين، حيث يجسد عمل الإنقاذ قيم الرحمة وفعل الخير الراسخة في الثقافة الإسلامية، بينما يجسد قرار الشركة الصينية على إصلاح الطريق مجاناً امتداداً مباشراً لفلسفة «تقديم الواجب على المنفعة»و»رد الجميل بالجميل» في التعاليم الأخلاقية الكونفوشية. إنّ هذا التفاعل الأخلاقي العابر للثقافات لم يعد مجرد حدث إنساني، بل أصبح دليلاً حضارياً على أن الهياكل القيمية العميقة للحضارتين ما تزال قادرة على تقديم معان جديدة لهذا العصر. كما يكشف الحدث أن الحضارتين الصينية والإسلامية، رغم اختلاف مساراتهما التاريخية، تلتقيان على أسس أخلاقية مشتركة تتجاوز حدود الزمان والمكان. ثانياً: الأخلاق الإنسانية المشتركة – تلاقي «الرحمة» و»الإنسانية» يُعدّ مفهوم «الإنسانية «في التعاليم الأخلاقية الكونفوشية جوهر الأخلاق الصينية؛ فهو يعبّر عن حبّ الغير، والتعاطف به، والتمسك بالعدل ووضع النفس مكان الغير في المعاملة، وقد أكدت هذه على عموم قيمة النفس الإنسانية فقيمة الرعاية للنفس والحياة ثابتة لا تتغير باختلاف البلدان والعرق والأديان، بينما ترتكز الأخلاق الإسلامية على مبدأ الرحمة والرفق بالإنسان. فوصف الله نفسه بأنه «الرحمن الرحيم»، ويؤكد على أن إنقاذ نفس واحدة يعادل إنقاذ البشرية كلها فأصبح إنقاذ الملهوف واجباً دينياً وأخلاقياً فمن هنا تشربت هذه التعاليم الإسلامية السامية في قلوب المسلمين حتى صارت جزءاً من حياتهم اليومية فيؤدون مثل العمل المعرض للخطر بعملية ذاتية لم يفكروا في الخطر ولا في المنفعة، يدفعهم على الإقدام على مثله التعاليم الراسخة والضمائر الرحيمة. وعلى هذا تتلاقى الحضارتان في قيمة النفس وحياته، فالإنسانية في الحضارة الصينية والرحمة في الحضارة الإسلامية تعبّران عن تقدّم الحفاظ على النفس على جلب المنفعة، وتمتع الإنسان نفسه بقيمة مطلقة، واعتبار مساعدة الآخر واجباً أخلاقياً. لذلك فإن إنقاذ الشابين السعوديين للمهندسين الصينيين ليس مجرد فعل بطولي؛ بل هو تعبير حيّ عن تلاقٍ أخلاقي بين حضارتين كبيرتين تشتركان في إعلاء قيمة نفس الإنسان. ثالثاً: تمييز الواجب عن المنفعة – من أداء الواجب إلى فضل العطاء أكدت الفلسفة الأخلاقية الصينية على أن الواجب يفوق المنفعة، وقد أصبحت عبارة «السعي إلى الواجب قبل المنفعة» أساساً أخلاقياً في السياسة والاقتصاد والفعل الاجتماعي، فقرار الشركة الصينية إصلاح الطريق مجاناً يجسد امتداداً حديثاً لهذا المبدأ، حيث المعرفة بالمعروف واجب أخلاقي ورد الجميل بالجميل واجب أخلاقي يقدم على جلب المنفعة. ومن جهة أخرى تتميز الحضارة الإسلامية بفلسفة العطاء قبل الأخذ من خلال الزكاة (واجب ديني) أو الصدقة (فضل أخلاقي)، فصار العطاء بمعناه العام شكلاً من أشكال تزكية النفس وتحقيق التضامن الاجتماعي. وبهذا يجسد ردّ الجميل الصيني لمن قام بفعل الخير نموذجاً لما يمكن تسميته «التجاوب الأخلاقي عبر الحضارات»، ويؤكد أن الحضارتين الصينية والإسلامية تتفقان على أن الأخلاق –وليس المنفعة المجردة– هي التي ينبغي أن توجه العلاقات الإنسانية، وهذا المشترك الأخلاقي يقدم بديلاً مهماً للنظريات الغربية ذات النزعة المصلحية في العلاقات الدولية. رابعاً: فلسفة الانسجام وبناء المجتمع – إسهامات حضارتين في فهم العالم تقوم فلسفة «الانسجام» في الحضارة الصينية على السعي إلى التعايش بين المختلفين دون محاولة إلغاء الاختلاف، فمبدأ «الانسجام لا التماثل» يحكم رؤيتها للعلاقات بين الثقافات والدول، ويؤكد الإسلام فكرة «الأمة» بصفتها مجتمعاً إنسانياً قائماً على القيم المشتركة والعدل والتعاون، وليس على أساس العرق أو البلدان أو الجنسيات، ويمنح هذا المفهوم رؤية عالمية تتجاوز الحدود الضيقة، وتبرز هنا وحدة عميقة بين «الانسجام الصيني» و»الأمة الإنسانية الإسلامية» فكلاهما يرفض الهيمنة والصراع، وكلاهما يدعو إلى التعاون بين الثقافات، وكلاهما يرى في القيم الأخلاقية أساساً للنظام العالمي. ومن هنا يبرز الدور الحضاري الكبير للصين والعالم الإسلامي في السعي إلى نظام عالمي يقوم على الحوار بدلاً من الصدام. فجملة الكلام هي أن حادثة الإنقاذ ليست مجرد قصة إنسانية، بل هي نص حضاري غني يبرز محورين قيميّين يجمعان بين الحضارة الصينية والإسلامية: إنسانية النفس وكرامة الإنسان؛ الرحمة والعطف؛ الواجب قبل المنفعة؛ العطاء ورد الجميل؛ الانسجام والتعايش، رؤية عالمية قائمة على الأخلاق. هذه المشتركات تجعل من الحضارتين الإسلامية والصينية قوتين أخلاقيتين في عالم يميل نحو الصراع والمادية، كما تثبت أن الحضارات لا تُخلق للصدام، بل قادرة على أن تتقاطع أخلاقياً وتتكامل حضارياً لتقديم حكمة جديدة للعالم. فالحوار بين الحضارتين ليس خياراً طارئاً، بل هو امتداد طبيعي لتاريخ طويل من التبادل والتلاقي، وما حدث في حدث السيول ليس سوى مثال صغير على إمكانات هائلة كامنة في هذا التلاقي القيمي لصالح مستقبل البشرية.