الهدر الغذائي في المملكة، وبشكل خاص في الولائم والمناسبات الاجتماعية الكبرى، يتجاوز كونه مسألة سلوك فردي ليصبح نزيفا اقتصاديا حادا يكلف الناتج المحلي الإجمالي مليارات الريالات سنويا، إذ تشير التقديرات الأولية إلى أن الخسارة السنوية تقترب من 40 مليار ريال، وهي أموال مهدرة كان يمكن توجيهها نحو استثمارات منتجة أو برامج تنموية ذات أثر كبير. تلك المشكلة التي تناولها الإعلام بشكل مكثف في السنوات الأخيرة، وتزداد جرعة الوعي الإعلامي في المناسبات الدينية، خاصة في شهر رمضان والأعياد، والإجازات الصيفية التي تكثر فيها ولائم الأفراح والمناسبات الاجتماعية الأخرى، ومع ذلك مازلنا في حاجة ماسة لوعي مجتمعي إعلامي متناغم؛ لتؤتي تلك الحملات أكلها. ولإنصاف الجهود الوطنية، يجب الإشارة إلى النجاح الملموس في هذا الملف؛ حيث انخفضت نسبة الفقد والهدر الغذائي الإجمالية من 33.1 % إلى 27.9 % بنسبة انخفاض 16 % مقارنة بخط الأساس لعام 2019م، هذا الإنجاز، الذي يعكس نجاح الجهود المشتركة لتعزيز كفاءة استهلاك الموارد، يثبت أن المسار التصحيحي قد بدأ فعلاً، وأن السياسات التنظيمية بدأت تؤتي ثمارها، ومع ذلك، فإن التحليل العميق للأرقام يظهر أن تحدي الهدر لا يزال قائماً ومُلحاً، حيث لا تزال نسبة تقارب ربع الغذاء المنتج تفقد أو تهدر. يكمن جزء كبير من المشكلة في الثقافة الاجتماعية المتجذرة التي ترى في فائض الطعام على موائد الضيافة دلالة على الكرم والجود، هذه القواعد الاجتماعية غير المكتوبة تدفع الأفراد والمنشآت إلى المبالغة في الكميات، ما يرسخ ثقافة استهلاكية غير واعية تتناقض بشكل صارخ مع توجهات الاستدامة العالمية ومستهدفات رؤية التنوع الاقتصادي. إن مجابهة هذه العادة لا تكون بالوعظ المباشر، بل بتقديم بدائل اجتماعية تحافظ على قيمة الكرم مع مراعاة المسؤولية. على مستوى الابتكار، يجب دعم وتطوير شركات ومنصات «حفظ النعمة» التي تعمل كوسيط لوجستي فعال، يضمن جمع فائض الطعام الصالح للاستهلاك وتوصيله إلى المستفيدين المحتاجين ضمن معايير سلامة غذائية عالية، وهذا الدعم يجب أن يتضمن تسهيلات في التراخيص وحوافز استثمارية لضمان استمرارية عملها وتوسعها، والاستفادة من بقايا الأطعمة الجاهزة التي لم تستخدم في المطاعم والفنادق الكبرى، في مصارف تعلمها جيداً الجمعيات الخيرية. إن خفض الهدر الغذائي بنسبة متواضعة، هو في الحقيقة قرار استثماري واقتصادي ذكي، يؤدي إلى وفر مالي ضخم يُعزز الأمن الغذائي ويسهم بشكل مباشر في تحقيق الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية المتكاملة، ويؤكد التزام المملكة بمسؤوليتها تجاه كوكب الأرض وموارده.