الفلاسفة المسلمون اعتبروا النص كاذبًا لأنه «صناعة تخيلية»، وفلاسفة التفكيك اعتبروه كتابة متكررة وإعادة للماضي.. ومن هنا تتدنى قيمة النص لدى الفريقين، كما أن هذا الاختلاف في القياس بين النص والبرهان كان واضحًا لدى الفلاسفة المسلمين، كما عند التفكيكيين.. لقد أطلق الفلاسفة المسلمون على النقد مصطلح القياس المنطقي، بوصفه أداة البحث في النظر إلى الشعر والدراما، وجعلوا النقد يخضع لعلم المنطق، ما أكسبه لديهم منزلة أعلى من الإبداع نفسه. والعمل الدرامي والشعر لديهم هو إبداع، والإبداع جعلوه يصدر من المتخيلة، أما المنطق والبرهان فيصدر عن العقل، فالمنطق والبرهان يظهر بالقياس، ومن هنا يحمل صفة الصدق - في العمل الفني بوجه عام - لأنهم تناولوا القصص مثل «كليلة ودمنة» وهي دراما بكل المقاييس، كما أنهم تناولوا الرسم والموسيقى ورأوا أن كل ذلك صادر من المتخيلة، وكل ذلك تنتفي عنه صبغة الصدق، ولذلك كان الإبداع في أدنى التراتب الفلسفي لديهم. وكما جاء في كتاب نظرية الشعر للدكتورة ألفت كمال، «على هذا الأساس يصبح القول البرهاني أو اللغة المستخدمة في البرهان ملزمة بالتحديد والتقيد الصارم، بحيث تصبح لغة دالة بشكل مباشر على المعاني المقصودة بلا زيادة أو نقصان، والعبرة هنا ستكون بمضمون القول الذي يجب تصديقه والاعتقاد به، في حين يصبح التركيز في الشعر على القول «اللغة» من حيث هو شكل مؤثر بصرف النظر عن صدقه أو كذبه». وجدير بالذكر أن لغة الشعر أو الدراما لديهم، قد وصفت أنها أقاويل أو كلام متخيل؛ فهم أول من أطلق على اللغة في العمل الفني والإبداعي «النص» اسم الكلام أو الأقاويل، بمعنى أنها لا تكتسب معناها إلا بالنقد أو ما أسموه البرهان المنطقي أو القياس، فيظل النص مجرد كلام أو أقاويل، لا يحمل سمة المعنى والوظيفة، إلا بالنقد. ومن الغريب أننا نجد هذا الملمح لدى الفلاسفة المحدثين أمثال ميشيل رايان، وجون ناثان، وميشيل دريدا، وميشال فوكو، وغيرهم ممن نظر لما بعد البنائية «التفكيكية» حيث اعتبروا أن النص ما هو إلا كتابة كما يأتي في المنزلة الأدنى بالنسبة للناقد أو القارئ، يقول ميشيل رايان: «حين نحدد معنى النص أو حقيقته بالقصد الواعي، إذ يؤدي ذلك إلى تعميم المناطق الحدية التي عندها يتسلل خارج النص إلى داخله». وهذا يعني أن هناك سلطة للناقد على النص في كلا الرأيين بحيث يجعلان الناقد ذا سلطة على النص؛ الأول وصف النص أنه أقاويل، والثاني وصفه بالكلام، وقد أوعز النقد الحديث ذلك إلى ما يسمى ب»الاختلاف المرجئ» فنجد سلطة القراءة واضحة في كلا الرأيين بحيث أن النص يؤجل بروز المدلول فيستمتع بالتعدد الدلالي الناتج عن هذا التأجيل. وهو ما وصفه ابن سينا بالدفقة الواحدة. والتفكيكيون قد جنحوا إلى عدم اكتمال المعنى في الجملة. فالعمل الإبداعي «النص» لدى النقاد المحدثين هو مجرد كلام يصدر عما أسماه فرويد بلوح النقش، ويؤكد على ذلك «دريدا» حينما يقول: «إن اللغة تنطوي على إحالة جانبية Lateral referral تجعل النص - على غير إرادة المؤلف الواعية - قادراً على السماح بانتشار «dissemination معان لا يقصدها الوعي». وهو ما اعتبره الفلاسفة المسلمون نقيصة في هذا اللون من الإبداع، حيث إنه يصدر من المتخيلة؛ وبالتالي فلا يحمل صفة الصدق أو الاعتداد به، كما أنهم قد أسندوا النقد إلى علم المنطق، فأصبح النقد لديهم علماً، وكذلك التفكيكيون، فقد أسندوا ذلك إلى علم المنطق، يقول دريدا إنه: «ينطوي على هذا الوضع بالنسبة إلى العلم والمنطق على نتائج جذرية». كما أننا نجد أن الفلاسفة المسلمين قد حرروا الناقد بسلطته المستباحة في إدخال تفسيرات ومعانٍ دلالية متعددة، فيقول الفارابي في كتابه عن نشأة اللغة «الحروف»: «هناك مستويان متعارضان للغة، الأول تدل فيه الألفاظ على معانيها التي جعلت علامات لها بحيث يدل اللفظ على معنى واحد أو عدة ألفاظ على معنى واحد أو أن يدل لفظ واحد على معنيين؛ بحيث أصبحت هذه الألفاظ - على تنوّعها - علامات على هذه المعاني التي أصطلح عليها وأخذت شكل «الثبوت»، وأصبح هذا المستوى اللغوي هو الذي يقاس عليه، أما المستوى اللغوي الآخر وهو تابع للمستوى السابق فتتجاوز فيه الألفاظ معانيها الثابتة أو «الراتبة» التي وضعت لها، فتصبح دالة على معاني أخرى مغايرة ومختلفة عن تلك المعاني الراتبة السابقة». هذا الانفعال الدلالي، الذي يمنح للناقد ذلك الذي نجده عند التفكيكيين حيث يكون الناقد أو القارئ هو صاحب السلطة، بحيث يخص النص الى تفسيرات متعددة إلى ما لا نهاية، هذا التعدد في التفسيرات هو ما أشار إليها الفلاسفة المسلمون؛ سواء كان يقصدها المؤلف أم لا يقصدها، بما أن لغة الناقد لا بد أن تستند إلى الوعي التام وإلى العلم، يمكن القول «إن هذه السمات التي تتسم بها اللغة العلمية أن تكون لغة اصطلاحية ثابته قابلة للتغيير». وهذا الرأي نجده أيضا لدى المنظرين التفكيكيين أن النقد يقوم على الوعي والعلم، وأن الناقد أو القارئ لا بد أن يحيطا بكل العلوم الإنسانية ليتمكنا من فك النص أو إعادة قراءته. فالفلاسفة المسلمون اعتبروا النص كاذباً لأنه «صناعة تخيلية» وفلاسفة التفكيك اعتبروه كتابة متكررة وإعادة للماضي، ومن هنا تتدنى قيمة النص لدى الفريقين، كما أن هذا الاختلاف في القياس بين النص والبرهان كان واضحًا لدى الفلاسفة المسلمين، كما عند التفكيكيين. أساس الاختلاف هو وظيفة لكل من القياس البرهاني والقياس الشعري، فتتحد طبيعة اللغة في كلتا هاتين الصناعتين، وجعلوا اللغة العلمية تتميز عن اللغة الشعرية، فالاسم عندما يستخدم في العلوم على حد قول الفارابي «فأنا أستعمله أداة تفهيم، أما الاسم الذي يستعمل في الشعر فإنه لا يستعمل بقصد التفهيم وإنما التخيل مثال كلمة «زبد، بحر»، وبذلك نجد تلك الريادة المهدرة لدى الفلاسفة المسلمين والتي لم نتتبع صداها لدى النقاد المحدثين ونظرياتهم.