في صمت الرمال، وبين تضاريس الصخر، وجنون التنوع تتحدث المملكة العربية السعودية بلغة التاريخ، وموطن الحضارات المتعاقبة، وشاهد حي على ولادة الإنسان، وتطور العمران، وتلاقي الثقافات. تسعى المملكة، من خلال رؤية 2030، إلى إعادة تعريف موقعها الحضاري عالميًا كأرض زاخرة بالإرث الإنساني، والمادي والطبيعي، وقد باشرت الجهات المختصة، كمنظومة الثقافة، في خطوات نوعية للحفاظ على الآثار، وتسجيلها في قائمة التراث العالمي (اليونسكو)، لتصبح هذه المواقع رواة لقصة وطن لم ينقطع عن التاريخ. في قلب القصيم، وتحديدًا على بعد بضعة كيلومترات من محافظة الرس، يقف برج الشنانة شامخًا على مرمى البصر، كأنما يراقب المكان منذ قرنين دون أن يغمض له جفن. هذا المعلم التراثي الفريد ليس مجرد برج حجري، بل هو مرقب عتيق نُحت من روح الأرض، وارتبط بذاكرة أهل المنطقة، وبدور تاريخي في حماية أرضهم ومراقبة أفقها، في وقت لم تكن فيه التقنية تتيح ما يُعين سوى عينٍ ثاقبة على برج عالٍ. «بداية التشييد في ظل التحديات» يعود تاريخ بناء البرج إلى أوائل القرن الثاني عشر الهجري، وتحديدًا بعد عام 1200ه، وهناك من يشير إلى أن تشييده بدأ عام 1208ه ضمن قلعة الشنانة التي كانت حصنًا منيعًا لأهالي المنطقة، ثم جرى تجديد بنائه في حدود عام 1233ه، أي قبل أكثر من 190 عامًا، ليبقى شامخًا حتى اليوم. وقد رُمم البرج لاحقًا عام 1399ه، في بادرة أولى لصون معالم الرس وموروثها المعماري، قبل أن تواصل الجهات المعنية اليوم الاهتمام به بوصفه أحد الرموز التراثية للمنطقة. «تصميم معماري دفاعي فريد» يتخذ برج الشنانة شكلًا مخروطيًا متدرجًا، تعلوه مهابة الشكل وبراعة التكوين، بارتفاع يصل إلى نحو 27 مترًا، بينما ترتكز قاعدته على دائرة يبلغ محيطها نحو 21 مترًا تقريبًا. ورغم بساطة المواد المستخدمة آنذاك، من الطين واللبن والحجر، إلا أن التصميم يعكس فهمًا معماريًا ذكيًا، يوازن بين الحاجة للدفاع، وضرورات الاستطلاع، واستدامة البناء في مناخ القصيم. «عينٌ على الأفق.. حارسٌ للمكان» لم يكن بناء برج الشنانة ترفًا معماريًا، بل ضرورة استراتيجية. فقد شُيّد لأغراض المراقبة والحماية، حيث كان يستخدمه الحراس لكشف الأفق الواسع ومراقبة أي تحركات معادية أو زحف قبلي، خاصة في ظل الانقسامات والصراعات التي سبقت توحيد المملكة. وفي هذا السياق، يُعد البرج شاهدًا على مراحل التوحيد التي قادها المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- إذ لعبت هذه الأبراج دورًا لوجستيًا في الاتصال والرصد وتنسيق الدفاع. «برجٌ في حضن التاريخ والقصص» يحمل برج الشنانة في جنباته ما لا يُحصى من الحكايات الشعبية، والذكريات المنقولة شفاهة عن بطولات، وحراسات، وأمسيات ليلية كانت تمر من تحته القوافل، أو يتجمع حوله الأهل ليعرفوا ما إذا كانت السماء قد أرسلت غيمًا، أو إن كانت الأرض قد أنجبت غريبًا. هو برج، لكنه أيضًا مرآة لزمنٍ مضى، لا يزال صداه في الذاكرة الجماعية للقصيم. «مستقبل البرج» الموقع مؤهل ليكون مركز جذب ثقافي، ومتحفًا مفتوحًا يروي لزواره قصة البرج، والرس، وبطولات المراقبة الصامتة في صحراء لا تنام. «برج الشنانة.. مرقب الماضي، ومَعْلَم المستقبل» في ختام هذا المشهد، يظل برج الشنانة شاهدًا حجريًا على عبقرية البناء الشعبي في جزيرة العرب، وعلى روح يقظة لطالما انتبهت للحدود والأنواء. هو ليس فقط مبنى من طين، بل هو مرقب المئتي عام، ومعلم ينتظر من يروي تاريخه بالصوت والصورة، ويرفعه من دور الحراسة إلى دور الريادة في المشهد السياحي السعودي المعاصر.