منذ أن أُعلن عن انطلاق رؤية السعودية 2030 عام 2016م، تعيش المملكة العربية السعودية في حالة من "الانتعاش التقني" وذلك في الجانبين المعرفي والتطبيقي في كافة القطاعات الحكومية والخاصة، ولعل ذلك يرجع إلى سبب بسيط، ألا وهو التبني الواضح والقوي لإستراتيجيات التحول الرقمي التي ستنقل المملكة ومجتمعها نحو مرتبة متقدمة ضمن مجموعة الدول والمجتمعات الرقمية الحديثة المتطورة. لذلك لم يكن صدور قرار اعتماد "الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي" قرارًا مفاجئًا في الوسط التقني ولدى الشركات وقطاعات الأعمال، إنما جاء تتويجًا واستكمالاً لمسيرة تحقيق رؤية 2030. تم آنفًا تعريف الذكاء الاصطناعي وكيف يساهم في تنويع الاقتصاد عبر تطوير إنتاجية الصناعات وتقليل الهدر ودعم مرافق الطاقة وتحسين سلاسل إمداداتها وكفاءتها، وكيف يساعد في رفع مستوى الابتكار والتطوير المحلي، وهو ما يتوافق مع مستهدفات رفع مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج المحلي، لذا تمضي المملكة العربية السعودية بخطى حثيثة وقفزات واسعة ورؤية واضحة، ساعيةً لتحقيق الريادة العالمية في مجالات الذكاء الصناعي وليس للتبعية والتقليد في هذا المجال، ويؤكد هذا التوجه التزام المملكة بتسخير تقنية الذكاء الاصطناعي كقوة موجهة للنمو والابتكار مرتكزة على أسس الحوكمة المسؤولة والتطلعات الوطنية. ويتماهى مع هذه الرؤية تبني المملكة نهجًا تدريجيًا في مجال الذكاء الاصطناعي يرتكز على طموحات المملكة في بناء بنية تحتية سيادية، وتنويع اقتصادي في مرحلة ما بعد الاعتماد على النفط، والاستفادة من ميزة الطاقة الفريدة التي تتيح نشر الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. ولعل أبرز المشاريع التي تبنت الدول إنشاءها وبناءها وتطويرها لهو مشروع نيوم حيث يمثل هذا المشروع أحد مكونات رؤية السعودية 2030 والذي يهدف إلى تحويل المملكة إلى مركز عالمي للذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة كما يشمل تطوير مدن ذكية تعتمد على مصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح، مع التركيز على تعزيز النمو الاقتصادي ورفع جودة الحياة من خلال توظيف الحلول التقنية الحديثة المتقدمة. كذلك خصّصت المملكة أكثر من 600 مليار دولار للاستثمارات في مجال الذكاء الاصطناعي بغية تطوير بنية تحتية متقدمة لهذا القطاع، ودعم الشركات الناشئة المتخصصة، إضافة إلى الشراكات العالمية واستقطاب الكفاءات والخبرات المتميزة من مختلف أنحاء العالم لتعزيز منظومة الابتكار والريادة التقنية في المملكة والبنى التحتية للشرائح، والمنصات السحابية؛ ويُعد إطلاق شركة «هيوماين»، المدعومة من صندوق الاستثمارات العامة في عام 2025، دليلًا واضحًا على طموح المملكة للسبق والريادة في هذا المجال الحيوي. لذا، تُولي المملكة اعتبارًا كبيرًا وأهمية قصوى للاستثمار في كوادرها البشرية، فمن دعم الأبحاث والتعليم الجامعي، إلى توفير حاضنات للمشاريع الناشئة ورؤوس الأموال، كما تعمل المملكة على بناء منظومة متكاملة للذكاء الاصطناعي وبخاصة في مجالات الطاقة ومنها الطاقات المتجددة، بحيث لا يقتصر الهدف على ابتكار منتجات جديدة فحسب، بل يشمل أيضًا رعاية جيل من المبتكرين والباحثين السعوديين القادرين على استدامة اقتصاد الذكاء الاصطناعي وتطويره من الداخل. لذا، يجب أن تعطى الأولوية لإعداد الكوادر الوطنية من خلال توظيف أصحاب المهارات في مجال الذكاء الاصطناعي وتنمية هذه المهارات على نطاق واسع من خلال التعليم والتدريب والمراس المستمر الأمر الذي سيساعد المملكة في نهاية المطاف على دعم قدراتها نحو بناء شراكات قوية محلية وعالمية تجمع بين الطموح المحلي والخبرات العالمية لبناء اقتصاد قوي ومستقبل واعد بفضل الذكاء الاصطناعي، كما أدرجت الجامعات السعودية تخصص الذكاء الاصطناعي ضمن برامجها الأكاديمية تماشيًا مع رؤية المملكة 2030، بهدف إعداد كوادر وطنية قادرة على قيادة التحول الرقمي وتعزيز التنمية المستدامة. وهنا لا بد من الإشارة والتنويه إلى أن كثيرًا من مصطلحات ومفاهيم ومراجع وأبحاث ودراسات الذكاء الاصطناعي تأتي بلغات أجنبية، لذا يأتي دور مَجْمَع الملك سلمان العالمي للغة العربية وهو ذروة سنام الاهتمام باللغة العربية في العمل نحو تعريب وترجمة تلك المصطلحات الأجنبية مما يثري اللغة العربية بمصطلحات ومفاهيم جديدة عصرية كالهموم الرقمية، والتطور الحاسوبي، وتحديات الذكاء الاصطناعي، وبهذا يسهم المَجْمَع في نشر الوعي اللغوي، وبيان قيمته وأهميته وتربية الذوق السليم، ومحاربة التلوث اللغوي، والنهوض بالفصحى، وتقريبها، وتبسيطها، وجعلها أكثر مواكبةً؛ إضافة إلى خدمة الثقافة العربية وتعريب المصطلحات الجديدة وبالغة الصعوبة، وهو ما يجعل من المَجْمَع فرصة كبيرة للانفتاح على العقل اللغوي العالمي وتحولاته المتنامية؛ وبذلك يشكّل مبادرةً ثقافية وحضارية عالمية؛ لذلك تعوّل أكثر المجامع اللغوية على هذا المَجْمَع السعودي (مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية) بأن يكون إضافةً كبيرة، وصرحاً عظيماً تتجلى من خلاله ريادة المملكة العربية السعودية في خدمة اللغة العربية التي نبعت ونبتت من هذه الأرض الطيبة المباركة. * جامعة الملك سعود