تؤكد دراسة عالمية جديدة أجرتها «كي بي إم جي « أنَّ المملكة العربية السعودية أصبحت قوة عالمية واعدة وصاعدة في مجال الذكاء الاصطناعي، مدفوعةً بتقدم غير مسبوق يعيد صياغة مفهوم استغلال هذه التقنية في تحقيق التحوّل الاقتصادي والمجتمعي المنشود. وكشفت الدراسة، التي أجرتها جامعة ملبورن بالتعاون مع «كي بي إم جي»، والتي شملت 47 دولة بمشاركة 48,340 مشارك: أنَّ المملكة لا تكتفي بتبني الذكاء الاصطناعي، بل تتصدر العالم في التفاؤل بمستقبله، مدعومةً بثقة عامة واهتمام واسع من الحكومة وكافة القطاعات. وأوضحت الدراسة أنَّ السعوديين يتصدرون القائمة في تقبل الذكاء الاصطناعي والثقة بإمكاناته الهائلة؛ حيث أظهرت النتائج أنَّ 84 % منهم يوافقون على استخدامه، و62 % منهم على استعداد للثقة في تطبيقاته؛ ويعكس هذا التفاؤل الواسع توقعات قوية، إذ ينتظر 89 % من السعوديين أنَّ يحقق الذكاء الاصطناعي فوائد ملموسة، وخاصة تحسين الكفاءة التي يتوقعها (91 %) منهم، وتجدر الإشارة إلى أنَّ 86 % من المشاركين قد رأوا بالفعل نتائج إيجابية مباشرة من دمج الذكاء الاصطناعي في حياتهم، أو بيئة عملهم. ورغم هذا الحماس الكبير، إلا أنَّ 73 % من المشاركين أعربوا عن قلقهم حيال الجوانب السلبية المحتملة للذكاء الاصطناعي، وخاصة فقدان التواصل الإنساني الذي يثير قلق (56 %) منهم. وفي حين يرى 68 % منهم أنَّ الضمانات الحالية كافية، يطالب 60 % منهم بتشريعات أكثر صرامة، وتعدُّ المعلومات المضللة مصدر قلق متزايد، حيث يشكك 68 % منهم في صحة المحتوى الرقمي، في حين يخشى 56 % منهم أن يتم استخدام الذكاء الاصطناعي للتلاعب بنتائج الانتخابات وهو ما دفع 87 % منهم إلى المطالبة بسن قوانين أكثر صرامة لمكافحة التلاعب الرقمي. وفي هذا الصدد، صرّح ماز حسين -الشريك، استشارات التحوّل الرقمي والابتكار لدى «كي بي إم جي»، الشرق الأوسط-، قائلًا: «لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد هدف تكنولوجي، بل أصبح استراتيجية جيوسياسية واقتصادية؛ وفي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالنقاشات حول أخلاقياته وإصداراته وتجاربه، تمضي المملكة العربية السعودية بخطى ثابتة ورؤية واضحة، ساعيةً لتحقيق الريادة العالمية في هذا المجال، يؤكد هذا التوجه على التزام المملكة بتسخير التكنولوجيا كقوة موجهة للنمو، مرتكزة على أسس الحوكمة المسؤولة وطموحاتها الوطنية». الرؤية السعودية للذكاء الاصطناعي: سيادة، وتوسع، واستراتيجية لا تتبنى المملكة العربية السعودية نهجًا تدريجيًا في مجال الذكاء الاصطناعي، بل نهجًا قطاعياً؛ إذ ترتكز استراتيجية المملكة على بناء بنية تحتية سيادية، وتنويع الاقتصاد في مرحلة ما بعد الاعتماد على النفط، والاستفادة من ميزة الطاقة الفريدة التي تتيح نشر الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. خصّصت الحكومة أكثر من 600 مليار دولار للاستثمارات في مجال الذكاء الاصطناعي، تشمل الشراكات العالمية، والبنية التحتية للشرائح، والمنصات السحابية؛ ويُعد إطلاق شركة «هيوماين»، المدعومة من صندوق الاستثمارات العامة في عام 2025، دليلًا واضحًا على طموح المملكة للريادة لا التبعية. وفي مرحلتها الأولى، حصلت «هيوماين»، على 18 ألف وحدة معالجة رسومات من نوع NVIDIA Blackwell، وهي معالجات عالية الأداء تُستخدم في أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة، وهناك خطط لزيادة عددها إلى مئات الآلاف، بهدف إنشاء واحدة من أقوى البنى التحتية للذكاء الاصطناعي في العالم خارج الولاياتالمتحدة الأميركية والصين. وفي إنجاز لافت هذا الشهر، أطلقت «هيوماين» نموذج الذكاء الاصطناعي التأسيسي «علّام»، وهو أول نموذج ذكاء اصطناعي عربي يتم بناؤه في المملكة. تعمل هيوماين على تطوير سعة ضخمة لمراكز البيانات تصل إلى 6.6 غيغاواط بحلول عام 2029؛ ما سيعزز مكانة المملكة العربية السعودية كواحدة ضمن أبرز الدول المضيفة للذكاء الاصطناعي عالميًا. وتُشكّل هذه المراكز العملاقة، بالتعاون مع مزودي الخدمات السحابية المحليين والمناطق الرقمية، بنية تحتية سيادية للذكاء الاصطناعي ستكون نموذجًا يُحتذى به عالميًا. تُمثل ميزة الطاقة في المملكة العربية السعودية فارقًا تنافسيًا آخر؛ فبفضل الكهرباء المدعومة والأراضي الشاسعة، تستطيع المملكة تشغيل عمليات الذكاء الاصطناعي الضخمة بتكلفة زهيدة مقارنةً بمعظم الدول. وبهذا، تتحوّل العقبة العالمية المتمثلة في تكاليف الطاقة، التي تُعد عبئًا خفيًا في سباق الذكاء الاصطناعي التوليدي، إلى ميزة تنافسية. تُعد المملكة العربية السعودية، بفضل نضجها الرقمي في قطاعات حيوية، مثل: النفط والغاز، والمرافق العامة، والتصنيع، والمدن الذكية، بيئة خصبة لتبني سريع للتقنيات المتقدمة، هذه الابتكارات، مثل: الذكاء الاصطناعي التوليدي، والتوائم الرقمية، وذكاء الحوسبة الطرفية، تعمل على إعادة تشكيل القطاعات ذات الكثافة الرأسمالية من جذورها. وسعيًا منها إلى تعزيز نفوذها عالميًا، أطلقت المملكة العربية السعودية صندوق «هيوماين فنتشرز» بقيمة 10 مليارات دولار؛ بهدف الاستثمار الاستراتيجي في الشركات الناشئة بمجال الذكاء الاصطناعي في الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا وآسيا، حيث لا يقتصر هذا الاستثمار الخارجي على تعزيز الحضور الدولي للمملكة فحسب، بل يهدف إلى جذب أبرز رواد الأعمال العالميين لإنشاء وتطوير أعمالهم داخل السعودية أيضاً. وفي الوقت ذاته، أبرمت المملكة اتفاقية بقيمة 10 مليارات دولار مع شركة AMD، بهدف إنشاء بنية تحتية متنوعة للشرائح من عدة موردين. ومن شأن هذه الخطوة أن تقلل من مخاطر سلاسل الإمداد وتعزز صمود المملكة في مجال الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل؛ تُكمل هذه الخطوة المادية جهود «سدايا» في مجال الحوكمة الأخلاقية للذكاء الاصطناعي؛ ما يؤكد التزام المملكة بتطبيق التقنيات الحديثة بمسؤولية وشفافية. تُولي المملكة العربية السعودية أهمية قصوى للاستثمار في كوادرها البشرية، فمن دعم الأبحاث والتعليم الجامعي، إلى توفير حاضنات للمشاريع الناشئة ورؤوس الأموال، تعمل المملكة على بناء منظومة متكاملة للذكاء الاصطناعي، بحيث لا يقتصر الهدف على ابتكار منتجات جديدة وحسب، بل يشمل رعاية جيل من المبتكرين والباحثين السعوديين القادرين على استدامة اقتصاد الذكاء الاصطناعي وتطويره من الداخل. استخدام الذكاء الاصطناعي على أرض الواقع: التحوّل في الوقت الفعلي أظهرت الدراسة أنَّ 57 % من المنظمات السعودية تستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل، بينما يعتمد 61 % منها عليه في تنفيذ مهامها. ومع ذلك، فإنَّ هذا التبني السريع لم يخلُ من بعض التحديات، حيث أفاد 58 % من المستخدمين بوقوع أخطاء نتيجة الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، في حين اعترف 70 % منهم باستخدام مخرجات الذكاء الاصطناعي دون التحقق من دقتها. ومع ذلك، تظل فوائد الذكاء الاصطناعي جلية ولا يمكن إنكارها؛ إذ أفاد ثلاثة أرباع (75 %)، المهنيين بحدوث تحسن في الكفاءة والجودة والابتكار بفضل الذكاء الاصطناعي، وصرّح 62 % منهم بأنَّ الذكاء الاصطناعي عزز قدرة منظماتهم على تحقيق المزيد من الإيرادات. ماذا يعني ذلك بالنسبة للقادة؟ بالنسبة للقادة في القطاعين العام والخاص بالمملكة العربية السعودية، الرسالة واضحة: لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد مشروع تكنولوجي منفصل، بل أصبح محركًا وطنيًا للتحوّل الصناعي والاقتصادي المنشود. ولإطلاق العنان لإمكاناته الكاملة، يجب على المنظمات أن توائم استراتيجيات الذكاء الاصطناعي مع الأهداف الأوسع لرؤية 2030، وأن تدمجها في برامج التحوّل المؤسسي الشاملة بدلًا من الاقتصار على المشاريع التجريبية المنفصلة؛ ما يتطلب نهجًا محليًا في حوكمة البيانات، والبنية التحتية السحابية، والرقابة التنظيمية، لضمان عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل آمن وأخلاقي داخل المملكة. وفي الوقت نفسه، يجب أن تعطى الأولوية لبناء الكوادر الوطنية، من خلال توظيف أصحاب المهارات في مجال الذكاء الاصطناعي، وتنمية هذه المهارات على نطاق واسع من خلال التعليم والتدريب المستمر. في نهاية المطاف، سيعتمد نجاح المملكة على قدرتها على بناء شراكات قوية، عالمية ومحلية، تجمع بين الخبرات العالمية والطموح المحلي لبناء اقتصاد قوي ومستقبل واعد بفضل الذكاء الاصطناعي.