هل تعلم أن أغلب متابعي الأخبار في العالم يحصلون على معلوماتهم الأولية الآن من منصات التواصل الاجتماعي، وليس من الصحيفة أو النشرة التلفزيونية؟ هذه الحقيقة المذهلة تؤكد أننا لم نعد نعيش تحولاً، بل زلزالاً هيكلياً يعيد رسم العلاقة بين الإعلام التقليدي والمحيط الرقمي، لقد تحولت العلاقة من مجرد استخدام أدوات جديدة للنشر إلى اشتباك عميق يلامس جوهر السلطة، وإعادة تعريف لمقاييس الأخلاق والمصداقية في نقل الخبر حول القضايا العالمية في أمريكا والشرق الأوسط وكل بقاع العالم. البعد الأول والأكثر وضوحاً هو سرعة إنتاج المحتوى ونشره؛ فالإعلام التقليدي يجد نفسه في سباق محموم ومستمر مع التغطية الآنية التي تفرضها مواقع التواصل، فالخبر لم يعد ينتظر النشرة أو الطبعة الصباحية؛ بل يُنشر بالوقت الفعلي لوقوعه. والمنافسة لم تعد بين المؤسسات فحسب، بل إن إنتاج المحتوى لم يعد حكراً عليها، فأي فرد يمتلك هاتفاً ذكياً هو مصدر محتمل للخبر والصورة، وهذا التسارع يجبر الإعلاميين على تكييف محتواهم باستمرار ليناسب كل منصة رقمية، وغالباً ما يعني ذلك تقديم المعلومة في قالب بصري ومُختصر على حساب العمق التحليلي. وأدى هذا التسارع إلى البعد الثاني، وهو فقدان الإعلام التقليدي لوظيفته كمراقب وحيد للمعلومة و«حارس البوابة»، فمواقع التواصل الاجتماعي توفر قنوات تجاوز تسمح للمصادر، سواء كانت مؤسسات سياسية أو أفراد، بالوصول المباشر للجمهور دون المرور بفلتر التحرير التقليدي، وهنا يبرز نفوذ المؤثرين، وهم فئة باتت تنافس الصحفيين والإعلاميين على جذب الانتباه وتشكيل الرأي العام في مجالات شاسعة، متجاوزين الموضة إلى قلب السياسة والصحة، وهذا التجاوز غالباً ما يفضل الرسائل العاطفية والمُستقطبة على حساب التقارير المتوازنة. أما البعد الثالث، والذي يشكل التحدي الأخطر، فهو المتعلق بالمصداقية والأخلاق، لقد أصبحت مواقع التواصل البيئة الأكثر خصوبة لانتشار سيل التضليل والأخبار الزائفة بسرعة هائلة، مما يضعف الثقة في جميع أشكال الإعلام، إن خوارزميات المنصات تساهم في تضخيم الروايات غير المؤكدة قبل أن يتمكن المدققون من التحقق منها؛ ولهذا، أصبحت عملية التدقيق والتحقق من الحقائق ضرورة ملحة، حيث تعمل المؤسسات بجهد متضاعف لمواجهة سيل المعلومات غير المؤكدة ووقف انتشارها قبل فوات الأوان. أخيراً، أعادت هذه العلاقة تعريف دور الجمهور والتفاعل فقد تحول المتلقي السلبي إلى شريك فاعل في عملية الاتصال من خلال التعليقات والمشاركات وال «هاشتاغات» التي قد توجه أجندة المؤسسات الإعلامية وتحدد أولوياتها، كما أن هذه المنصات أصبحت تمد المؤسسات الإعلامية ببيانات ضخمة حول تفاعلات الجمهور، مما يتيح تخصيص المحتوى بشكل غير مسبوق، وهذه البيانات تمنح الإعلام التقليدي أداة فورية لقياس نبض الرأي العام حول أي قضية، لكنها في المقابل تزيد من خطر توجه الإعلام نحو ما يريده الجمهور بدلاً مما يحتاجه من حقائق صلبة. إن ساحة المعركة الإعلامية قد تغيرت جذرياً، وفي رأيي النقدي، يجب على الإعلام التقليدي أن يتوقف عن محاولة التغلب على منصات التواصل في سباق السرعة الآنية، وأن يركز بدلاً من ذلك على قيمته الجوهرية التي لا يُمكن تعويضها: التحليل العميق وتقديم الحقيقة المُدَقَّقة، ويجب أن يستفيد من قوة الانتشار الرقمي مع الحفاظ على بوصلته الأخلاقية، وفي سياق النهضة العمرانية الهائلة التي تشهدها مدننا الذكية في المملكة، حيث السرعة والمعلومات هي أساس البناء، فإن دور الإعلام ليس مجرد نقل الخبر، بل تثبيت الأساس المعرفي الموثوق، الذي يُبنى عليه مستقبل مشرق وجمهور واعٍ ومحصن.