رغم مرور عدة شهور على رحيل معالي الدكتور مطلب بن عبدالله النفيسة -رحمه الله- وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء، آثرت أن أؤخر الكتابة عنه حتى تهدأ مشاعر الفقد، ويستقر في الوجدان ما يليق بمقام رجلٍ جمع بين الهيبة والتواضع، والعلم والعمل، والأهم من ذلك لكي أتمكن من إعادة التذكير بفضله ومكانته، وفرصة لتكون هذه السطور المتواضعة في حقه سبباً لتجديد الدعاء له بالرحمة والمغفرة. فلم أنسَ فضله أستاذاً لي في الجامعة ومرشداً في مسيرتي العملية، وما زلت أستحضر مواقفه حين كان يتواصل مشجعاً ومحفزاً كلما نشرت مقالاً أو بحثاً يتصل بمجال القانون الوطني، ليعبر بكلمة عن تقديره للفكرة القانونية، والتحفيز على طرح كل ما من شأنه يصب في تطوير الشأن العام وخدمة الوطن وقضاياه. في مسيرة البناء الوطني، تبرز أسماء صنعت بصمتها بهدوء، ورسخت أثرها بالعطاء المخلص، وغادرت بسلام كما كانت في حياتها تاركة حسن الأثر، ومن هؤلاء معالي الدكتور مطلب النفيسة الذي يعد من الرموز القانونية والإدارية الوطنية، فقد أسهم في تأسيس الفكر النظامي والتنظيم الإداري في المملكة الحديثة من موقع الأكاديمي والمستشار والمسؤول معاً. امتاز معاليه برؤية قانونية متزنة، تزاوج بين أصالة التأصيل الفقهي والدقة النظامية الحديثة، فكان من أوائل من جسروا العلاقة بين الاجتهاد القانوني والبعد التنموي للدولة؛ وقد ترك بصماته الفكرية في مسارات ومحطات متعددة، سواء في مجال صناعة الأنظمة، أو في محافل التعليم القانوني التي كان أحد أعمدتها، أو في عمله ضمن مؤسسات الدولة العليا والذي كان له بصمه في رسم جهود تطويرها. عرفه طلابه أستاذاً رزيناً يجمع بين التواضع والصرامة العلمية، وبين الهدوء في الطرح والقدرة على التأثير؛ فلم يكن التعليم عنده تلقيناً للمعلومة، بل صناعة للعقل وتحفيز للأسئلة؛ وكان يولي اهتماماً خاصاً بطلابه، ويتابع نتاجهم الإعلامي والعلمي، ويشجعهم على الكتابة القانونية المتخصصة؛ وكان من القلائل الذين يرون أن تطوير الفكر القانوني الوطني لا يكون إلا عبر الكتابة المؤصلة والتفكير المنضبط والتحليل العلمي المواكب لتطور الدولة وأنظمتها. وتجلت إنسانيته كذلك في تواضعه الجم وتفاعله الدائم مع محيطه الأكاديمي والمهني؛ فلم تشغله المناصب ولا المهام الجسام عن التواصل مع طلبته وزملائه، فكم احتفظ الكثيرون بذكرى كلمات تشجيع أو اتصال دعم، تعبيراً عن شخصيته التي ترى في الآخرين شركاء في خدمة الوطن. كان معاليه يؤمن بأن العمل في صياغة التشريعات والشؤون القانونية ليست وظيفة إدارية فحسب، بل وتتجاوز التعاطي مع النص القانوني ذاته باعتباره مشروعا وطنيا لبناء مؤسسات تعزز سيادة النظام وثقافة العدالة. وقد انعكست هذه الرؤية في مسيرته العلمية والعملية على حد سواء، حيث جمع بين الاستشراف والرؤية الإصلاحية، وبين الحرص على أن يكون الفقه القانوني السعودي امتداداً لهوية الدولة وقيمها الإسلامية. رحيله بلا شك ترك فراغاً في المشهد القانوني والأكاديمي والإنساني معاً، غير أن أثره باقٍ في طلابه وأبحاثه وإسهاماته التي تشكل مرجعاً لكل من يسعى لفهم تطور الدور القانوني في تحقيق التنمية الإدارية والحوكمة الرشيدة؛ فقد كان مثالاً للعالم المخلص والمسؤول الهادئ الذي جعل من القانون رسالة ومن الوطن مشروعاً دائماً للعطاء.