يقول المثل الشائع: «اتق شرّ من أحسنت إليه»، ويقابله قول آخر أسمى: «أحسن إلى من أساء إليك»، بين الحذر والإحسان تتجلّى أخلاق الإنسان في التعامل مع الأذى، فبعض الناس يردون الشر بمثله، بينما يختار آخرون أن يسمو على الجراح ويقابلوا الإساءة بخلق نبيل. الحكمة الأولى تنبع من تجربة البشر الطويلة مع الغدر والخديعة، فهي تدعو إلى اليقظة لا إلى الانتقام، إلى الحذر لا إلى الكره. أما الثانية، فهي امتداد للقيم الأخلاقية العميقة، حين جعلت الإنسانية الإحسان ذروة السلوك السليم، كما يُظهر قول الحكيم جل جلاله: "ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم." بين القولين مساحة ذهبية يمكن لكل فرد ومؤسسة ومجتمع أن يسير فيها، فالحذر الواعي يحمي النفس والمصلحة، والإحسان يرفع من القيم الإنسانية والعلاقات الاجتماعية. الموازنة بينهما تمنحنا القدرة على التعامل مع الآخرين بحكمة، سواء في العمل، أو بين الأصدقاء، أو داخل المجتمع، بل وحتى بين الحكومات. ويأتي اليوم العالمي للتسامح، الذي يُحتفل به في 16 نوفمبر من كل عام، ليذكرنا بأهمية الحذر الواعي والإحسان المتزن في حياتنا اليومية، رغم أن هذه القيم مغروسة فينا ديناً وخلقاً وتطبيقاً في معظم علاقاتنا، قبل أن يذكرنا بها هذا اليوم النبيل. من الأمثلة الواقعية على ذلك، أن يتجاوز الموظف عن هفوة زميله، لا ضعفاً، بل إيماناً بأن بيئة العمل لا تزدهر إلا بروح التسامح، أو أن يبادر الإنسان إلى مساعدة الآخرين دون نظر إلى اختلافاتهم، أو أن يُعيد جسور المودة مع من أساء إليه في الماضي. وكم من بيئة عمل انهارت بسبب غياب روح التسامح، وكم من علاقة استعادت توازنها حين اختار أحد أطرافها الإحسان بدل الرد بالمثل. فمثل هذه المواقف اليومية الصغيرة تصنع أثراً كبيراً في بناء مجتمع متماسك، وتؤكد أن الحزم والإحسان يمكن أن يسيرا معا، وأن التسامح سلوك واعي لا شعار عاطفي. فالتسامح سلوك أخلاقي ومهارة نفسية تمنح الإنسان توازناً داخلياً وقدرة على تجاوز التوتر والانفعال، وتكسبه حكمة في إدارة المواقف والعلاقات. وتُظهر التجارب الواقعية أن الجمع بين الحذر والإحسان يهيئ مناخاً من الثقة والاحترام، ويخفض التوترات، ويُنمي علاقات أعمق وأكثر استقرار، دون أن يعني ذلك التنازل عن الحق، فهو أسلوب لطيف لإدارة العلاقات بوعي ونضج، ويُثمر بيئة صحية يسودها الاستقرار والنجاح والسلام الداخلي. وفي الختام، يظل التسامح بعين الحذر فناً من فنون الحياة، وقيمة أخلاقية رفيعة، واستراتيجية للتفاهم الإنساني. فموازنة الحذر بالإحسان لا تغيّر الماضي، لكنها تصنع مستقبلاً أنقى، وكل اختيار للتسامح يمنح فرصة جديدة للسلام والمودة.