يُدهَش الباحث في فقه اللغة حين يكتشف أن بعض الألفاظ، على تفرّق اللغات وتباعد العصور، تتلاقى في جوهرها الدلالي، وكأنها تصدر عن معينٍ واحد من المعنى الإنساني المشترك، ومن أبرز هذه الألفاظ كلمة (طُوبَى)، التي وردت في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الرعد: 29. وقد اختلف المفسرون في معناها، لكنها بقيت متفقة في كونها بشارة بالنعيم والسرور والخير المطلق، وهي فكرة تتجاوز اللغة لتسكن الوجدان الإنساني العام، إذ نجد نظائرها في لغاتٍ أخرى تحمل الجوهر ذاته: النعيم الأبدي، والغبطة، والطمأنينة الروحية. وبالنظر في الدلالة العربية لكلمة طوبى نجدها مأخوذة من مادة (ط ي ب)، التي تدور معانيها حول الخير والبركة والنقاء والسرور، و»طُوبَى» على وزن «فُعْلَى» من الطِّيب، أي الخير الكثير أو الحالة المثلى من السعادة. قال الزجاج: طوبى: اسمٌ من الطيب، أي العيش الطيب والنعيم. وقال ابن عباس: طوبى لهم: فرحٌ وقرةُ عين. وفي الحديث الصحيح: «طوبى لمن رآني وآمن بي» أي هنيئًا له وبُشراه. فالكلمة تحمل معنى الغبطة الأخروية والرضا الإلهي، وهي بذلك تقترب من المعاني الروحية في اللغات القديمة والحديثة. وفي اللغات الأخرى يقابل «طُوبَى» اللفظ العبري «אַשְׁרֵי» (ashrei) الوارد في المزامير، كما في قوله: «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار» مزمور 1:1، وهو يحمل المعنى القرآني نفسه تقريبًا: الغبطة والسعادة لمن سلك طريق الصلاح. الاشتقاق من الجذر العبري אשר (šr) يدل على الاستقامة والسير في الطريق الحقّ، وهي صورة معنوية تتفق مع السياق القرآني الذي يجعل الطوبى جزاء العمل الصالح. وفي السريانية والآرامية: وردت الكلمة بصيغة «tūbā» أو «tūbō»، بمعنى الخير والسعادة والهناء. واللافت أن النطق قريب جدًا من العربية، مما يدل على الأصل السامي المشترك. وقد وردت في التراث المسيحي السرياني بمعنى النعيم السماوي، مثل قولهم: «tūbā l-maskīn brūhā» أي طوبى للمساكين بالروح، وهو ما نُقل إلى العربية في الأناجيل بلفظ: «طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات» إنجيل متّى 5:3، وهذا التوافق اللفظي والدلالي يُعدّ من أوضح الأمثلة على وحدة الجذر والمعنى في اللغات السامية. في الترجمة اليونانية للكتاب المقدس تُقابلها كلمة «μακάριος» (makarios)، التي تعني السعيد المغبوط أو المبارك. وقد نُقلت الكلمة اللاتينية المقابلة «beatus» بالمعنى نفسه، وهي التي اشتُق منها في اللغات الأوروبية الحديثة كلمات مثل: beatitude الغبطة أو النعيم الأبدي. وهذا التطور الدلالي يُظهر أن المفهوم الإنساني للسعادة المثالية واحد، وإن تعددت لغاته. إن تأمل هذا التلاقي بين طُوبَى العربية و אַשְׁרֵי العبرية وtūbā السريانية وmakarios اليونانية وbeatus اللاتينية، يكشف أن جميعها تشير إلى نعيمٍ روحي وسعادةٍ متجاوزة للدنيا، تُمنح لمن سلك سبيل الخير. وهذا الاتفاق ليس صدفة لغوية، بل هو اتحاد في الهدف القيمي، إذ تشترك الثقافات والديانات في جعل الغاية القصوى للإنسان هي الرضا الإلهي والسكينة الأبدية، وهكذا تحولت «طُوبَى» من كلمة لغوية إلى رمز كوني، يختصر رحلة الإنسان نحو الطهر والرضوان. المراجع: 1. الزجاج، معاني القرآن وإعرابه. 2. ابن منظور، لسان العرب (مادة طيب). 3. الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل. 4. Brown-Driver-Briggs Hebrew and English Lexicon (root אשר. 5. Payne Smith, J., A Compendious Syriac Dictionary. 6. Liddell & Scott, Greek-English Lexicon (entry μακάριος). 7. Oxford Latin Dictionary, entry beatus.