لم يكن هَمُّ ابن رشد في دراساته الفلسفية يكمن في ترجمة نصوص أرسطو فحسب، بل بدا في إعادة بناء الفهم نفسه بين لغتين وثقافتين ومنهجين. لقد أدرك منذ البداية أنّ الترجمة ليست نقلًا للألفاظ، بل نقلٌ للمعنى عبر جسرٍ من الفهم والتأويل، وأنّ هذا الجسر كثيرًا ما يتصدّع إن لم يُبْنَ على وعيٍ باللغة والفكر معًا. يروي ابن رشد أنّ أبا بكر بن طفيل استدعاه ذات يوم وقال له: «سمعتُ أمير المؤمنين يشتكي من غُموض عبارة أرسطو طاليس»، كان ذلك الموقف بمثابة البداية لإدراكه أنّ اللغة ليست وسيلة للمعرفة فحسب، بل قد تكون حِجابًا عنها إذا لم تُصَغْ بدقة، فعبارة الفيلسوف اليوناني حين تُنقل إلى العربية لا تكفيها الأمانة الحرفية، بل تحتاج إلى روحٍ قادرة على تفكيك المعنى ثم إعادة تركيبه في بيئة لغوية مختلفة؛ حيث رأى طه عبدالرحمن في اللسان والميزان أو التكوثر العقلي أنّ غموض عبارة أرسطو لا يعود إلى ضعف المترجمين العرب، وإنّما إلى تداخل لغتين فلسفيتين متباينتين إحداهما ذات نزعة تركيبية مجرّدة، والأخرى ذات طبيعة بيانية تصويرية. وهنا يبرز جهد ابن رشد؛ إذ حاول أن يجعل من الترجمة عمليةً واعية لا مجرّد نقل حرفي، فكان يُعيد النظر في كلّ مصطلح يوناني ليمنحه نظيرًا عربيًا ينبض بروح التفكير الإسلامي والبياني معًا. لقد واجه ابن رشد في نصوص أرسطو عوائق لغوية وصرفية ونحوية حالت دون وضوح الفكرة كاستعمال «الوجود» و»الموجود» و»الصدق» في سياقاتٍ متغايرة، أو غياب الرابط اللغوي الذي يُعادل الكوبولا (Copula) في اليونانية. فاضطر إلى أن يبتكر طرائق تفسيرية تعتمد على المقاربة بين «الموضوع والمحمول» محاولًا أن يملأ الفراغ بينهما بمفهوم «الارتباط»، وهو ما أطلق عليه «الإثبات»، لقد كانت هذه المقاربة بداية تأسيس لما يُمكن وسمه بالبلاغة الفلسفية العربية؛ حيث يُصبح التركيب اللغوي أداة كشفٍ للمعنى لا عائقًا أمامه. لم يكن ابن رشد مُترجمًا محضًا، بل كان شارحًا ومؤوِّلًا، فهو لا يرى في تلخيص النص الفلسفي اختزالاً، وإنّما غربلة من شوائب الغموض ليصير نصًا حيًّا في الثقافة الجديدة، ولهذا نجده في ترجمته يُعيد بناء النص على نحوٍ يجعله قريبًا من الذهنية العربية مُستبدلًا بعض الأمثلة اليونانية بأخرى من التراث العربي والإسلامي في محاولةٍ لجعل المفهوم الفلسفي يتنفّس في بيئةٍ لغوية مألوفة. وعندما تناول ابن رشد كتاب الشعر لأرسطو أدرك أنّ جوهر الشعر في فلسفة اليونان يقوم على المحاكاة، بينما في العربية يقوم على الخيال والتصوير، فالشاعر العربي لا يُحاكي الواقع بل يُعيد تشكيله عبر الصورة والمجاز، لذلك رأى أنّ الخيال ليس مجرّد زُخرف بلاغي، بل قوة معرفية تُسهم في توسيع الفهم الإنساني للعالم، وهكذا نقل مفهوم الشعر من دائرة المحاكاة إلى دائرة الإبداع، ومن فكرة التقليد إلى فكرة التكوين. وهو وإن لم يُعارض التعريب إن اقتضته الحاجة إلا أنّه دعا إلى استعمال الألفاظ الأعجمية إذا ما بدت دلاليًّا أكثر دقةً شريطة أن تُخضع لقوانين العربية. ظلّ ابن رشد يواجه مشكلة التفاوت بين المصطلح الفلسفي والبيان اللغوي، فبينما تنحو الفلسفة إلى التجريد فإنّ العربية تميل إلى التجسيد. ومن هنا جاء جهد ابن رشد لابتكار لغة ثالثة بدت كلغة وسيطة بين المنطق والبلاغة، فوسّع في شرحه لكتاب الخطابة مفهوم البلاغة لتتجاوز نقل المعنى إلى إقناع المخاطَب وتهيئة الذهن لتلقي الحقيقة، فالخطابة عنده ليست مجرد فنّ قول، بل وسيلة تواصل بين الفيلسوف والجمهور؛ حيث تُتيح للفكر أن يتجلّى بعباراتٍ مألوفة دون أن يفقد عُمقه. ولذا نجح ابن رشد في أن يجعل اللغة شريكًا للفلسفة لا خادمًا لها، فإذا كان أرسطو يرى في المنطق معيار الصواب، رأى ابن رشد أنّ العربية قادرة على احتضان المنطق دون أن تفقد طابعها البياني، لقد كانت محاولته في جوهرها بحثًا عن لغة للفهم المشترك تتصالح فيها الدقة المنطقية مع السمة البلاغية، وكأنّه جمعٌ بين البيان والبرهان والعرفان. والحقيقُ ذكرُه هنا أنّه لم ينقل الفلسفة إلى العربية، بل عرّب الفلسفة نفسها عندما جعلها تتكلّم بلسان العرب وتُفكر بعقلهم وتستمد من وجدانهم صورها وأمثلتها، وهكذا فالتأويل عند ابن رشد ليس انحرافًا عن الأصل بل إحياء له، واللغة ليست سجنًا للمعنى بل فضاءً لتجدُّده. إنّ أزمة الفكر العربي ليست في نقص المفردات والعبارات، بل في غياب اللغة التي تُبصر إلى ما وراء الظاهر، وحين تعود العربية إلى مقامها الذي أراده ابن رشد لسانًا للفكر لا للفصاحة وحدها فربما نكتشف أنّ كلَّ ترجمة صادقة ليست سوى فعل إحياء، وأنّ كلَّ فهمٍ عميق ليس إلا صورةً من صور التكوين.