عرف في تاريخ الفكر الإسلامي إشكالية الصراع بين أهل الحديث وأهل الكلام، من ناحية الموضوعات المطروقة، والمناهج المسلوكة، والاستنتاجات المُلزمة. ولكن ثمّة طريق ثالث ظهر بينهما، لا اصطفافاً ناحية أحد الفريقين، بل بفحص ينقد ويؤسس، وهو «الكلام البديل»، فهو علم كلام قد بدأ بالنقد ثم البناء لبديل عن الكلام المعهود. وهذا ما بيّنه د. ياسر المطرفي في دراسته النفيسة «علم كلام على غير هُدى المتكلمين: الغنية عن الكلام وأهله للخطابي»، الصادر عن مركز نماء 1447ه - 2025م. وفيه تبيين لمساهمة أبي سليمان الخطابيّ (ت 388ه) بطريق ثالث بين الطريقين (طريق أهل الحديث وطريق أهل الكلام)، مفصّلاً القول، ومميزاً في طبيعة الكلام بين «كلام مكروه» و»كلام مشروع»، ورد المرادفة الشائعة بين «العقل» أو «علوم العقل» و»علم الكلام». فالعقل ليس رديفاً للكلام، والكلام نوع من أنواع المسالك العقليّة، ولا يحق له احتكارها، كما لا يحق للطرف الناقد (من أهل الحديث خاصّة) إغفال الدلالات العقلية في نصوص الكتاب والسنة، واستظهارها، وعدّها أصولاً مؤسسة. وقد استشهد المؤلّف بنصّ لابن تيمية يبين الممايزة بين الفريقين، قائلاً عن أهل الحديث «صنّفوا كتباً قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنّة من القرآن والحديث وكلام السلف... يستدلون بالقرآن من جهة إخباره لا من جهة دلالته، فلا يذكرون ما فيه من الأدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد؛ وأنه قد بيّن الأدلة العقلية الدالة على ذلك...»، وقال عن أهل الكلام: «فذمهم أولئك ونسبوهم إلى الجهل؛ إذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول». فهذه الإشكالية بين الفريقين جاء الخطّابي لها ب»كلام بديل»، وسمّاه المؤلف (د. ياسر) بالخطاب البديل، نظراً لأنّه اشتمل على أمرين: «الكلام البديل»، والنظر إلى «ظاهرة الكلام»؛ من جهة نظرية ناقدة ومن جهة نفسية تبين سبب الولوع بها. وأمّا الكلام البديل، فأصله تمييزه إلى «كلام مكروه» و»كلام مشروع»، ولأجل ذلك قدّم أولاً بكتاب «الغنية» لتبيين حدود الكلام، ونقده، وثانياً بكتاب «شعار الدين» لبناء الكلام البديل، وهذا الكلام البديل من حيث موضوعاته فقد وافق موضوعات علم الكلام، نحو: الدين، وشرح أصوله في التوحيد وصفات البارئ تعالى والكلام في القضاء والقدر والمشيئة» والنبوءات... وغيرها. ومن حيث المنهج فلم يحصر المنهج في دليل الأعراض عند المتكلمين، وإن لم ينكره، غير أنه في «الغنية» أنكره. ومن حيث مسألة تأويل الصفات؛ فقرر ما قرره السلف، لكنه أقرّ بالتأويل في حال الضرورة. يقول المؤلف عن كتابي الخطابيّ: «جاء ليقدّم خطاباً عقلانياً بديلاً لما هو شائع من كتب الكلام، فإذا كان الغنية يمثل بديلاً عن الخطاب المحافظ الذي يرفض الكلام دون تقديم حجج عقلانية مقنعة، فإن شعار الدين يقدّم بديلاً لا يغوص في مسائل علم الكلام العميقة على طريقة المتكلمين، ودون أن يعرضها في الوقت نفسه بلا براهين عقليّة». فقيمة الخطابي بكتابية بحسب هذه الدراسة من حيث مقام عمله أنها «حلّ جديد» أو «طريق ثالث» يقدّم بديلاً بين فريقين، ويتميّز الخطابي ب»الوعي بخطابه كبديل»، و»الجمع بين النقد والبناء»، أمّا من حيث مصادر البديل فمعتمده على النظر المتعلق بأصول الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها، مع علوم الحس ومقدماتها. ومميزات المنهج البديل: «الوضوح والجلاء» بعيداً عن الغموض والعسر في مناهج المتكلمين، و»الاقتصاد وتجنّب التعمّق» خلاف مناهج المتكلمين من الإطالة والتعمق غير النافع. ويختم المؤلف ب»لقد مثّل مشروعه محاولة مبكّرة لفتح أفق آخر لعلم الكلام، ثم أصبح مع مرور الزمن مساراً معترفاً به في الخطاب الكلاميّ وتراثه». ولعل شواهد كلمة المؤلف الخاتمة تظهر جلياً في ابن تيمية، والطريق الذي سلكه، عند التأمل في كتبه، نحو: «الانتصار لأهل الأثر» أو «الرد على المنطقيين» أو «درء تعارض العقل والنقل»؛ وهذا مما يحتاج لدراسة مستقلة ستكون نفيسة للمقارنة بين ابن تيمية والخطابيّ، وكيف طوّر ابن تيمية هذه المقابلة التي أقامت الانفكاك بين «العقل» و»الكلام» (درء تعارض العقل والنقل)، وتمييز طرق المتكلمين عن الاستدلالات المباشرة (الانتصار لأهل الأثر)؛ ليجلّيها بوضوح كبير، وتعميق أكبر، مع استفادة من أكثر من مصدر، لتقديم طرائق حجاج سلفيّة جديدة.