في ظل التوسع المتسارع لاستخدام المنصات الاجتماعية في العالم العربي خلال الأعوام الأخيرة، ومع بلوغ معدلات الانتشار مستويات قياسية وفق تقديرات عام 2024، تتنامى ظاهرة المحتوى الإرشادي الذي يقدّمه مؤثرون يعرفون أنفسهم بوصفهم خبراء في القانون أو المال أو الصحة أو الإرشاد الأسري، بينما تتزايد في المقابل الشكاوى من أن جزءًا معتبرًا من هذا الخطاب ليس سوى تسويقٍ مقنّع لمصالح خاصة أو منتجات وخدمات مدفوعة، وتبعًا لشهادات مختصين ومراقبين، فإن غياب الضوابط المهنية والمساءلة القانونية في الفضاء الرقمي أتاح لمدّعي الخبرة تحويل «النصيحة» إلى قناة ربحية، الأمر الذي يدفع باتجاه المطالبة بتدخل تنظيمي أكثر صرامة يوازن بين حرية التعبير وحماية الجمهور من التضليل. تبدأ الحكاية، في الغالب، من نقطةٍ إنسانيةٍ بسيطة: باحثٌ عن معلومةٍ سريعة أو نصيحةٍ تنقذه من حيرةٍ عملية، شاب طموح يتابع منصات التواصل بحثًا عن مدخلٍ إلى عالم الاستثمار الرقمي، يعثر على حسابٍ أنيق لصاحب مظهرٍ واثق يعلن نفسه «مستشارًا ماليًا»، فينصحه بتوجيه مدخراته إلى مشروعٍ «واعد» لا يخلو كلام صاحبه من مفرداتٍ رنانة عن العائد السريع والمخاطر المحدودة، يندفع الشاب مدفوعًا ببريق الثقة المنقولة عبر الشاشة، ثم يكتشف بعد أشهر أنه وقع فريسة حملة ترويجية مقنّعة لمشروعٍ مُتعثر لا يستند إلى أساسٍ مهني راسخ. وفي مشهدٍ موازٍ، تجد أم شابة نفسها أمام فيديو قصير على منصة مرئية، تقدّم فيه «مرشدة أسرية» وصفةً سريعةً ل»تقويم السلوك» تحقق نتائج «فورية»، تطبق الأم ما استمعت إليه بحُسن نية، لتتكشف بعد أسابيعٍ توتراتٌ متزايدة مع أطفالها ومشكلاتٌ كان يمكن معالجتها لو أنها قصدت مختصًا مؤهلًا، أو تلقت النصيحة في سياق مهني منضبط. هذان المشهدان -وما يتفرع عنهما من قصص يومية مشابهة- يلخصان ملامح فوضى النصائح التي تعمّ فضاءنا الإعلامي الحديث، حيث تختلط الدوافع وتتبدل الأدوار، فيظهر «المرشد» على هيئة «خبير»، بينما تتحول النصيحة إلى واجهةٍ لرسالة تسويقية محبوكة بمهارة. مطالباتٌ بتدخلٍ تنظيمي يعيد الانضباط إلى المشهد الإعلامي الإعلام الجديد يزيد الإشكالية ولكي نفهم جذور هذه الظاهرة، ينبغي وضعها في سياقٍ تاريخيٍ ومهنيٍ مقارنةً بما كان قائمًا في الإعلام التقليدي. فوسائل الصحافة والإذاعة والتلفزيون عُرفت، على امتداد عقود، بانضباطٍ مؤسسي تحكمه مواثيق سلوك واضحة ومراجعات تحريرية صارمة، وتوازيها مساءلة قانونية تعلي كلفة الخطأ وتحدّ من انزلاق المعلومة نحو التضليل، كان الصحفي أو الضيف الخبير يدرك أن رأيه المعلن لا يمرّ دون تحقق، وأن كل توصية تُسدى للناس تُسائل صاحبها المهنة والمجتمع. وعلى الضفة الأخرى، أتاح الإعلام الجديد لأي شخص يمتلك اتصالًا بالإنترنت أن يصبح ناشرًا ومقدّمًا للمحتوى بين عشيةٍ وضحاها، دون اشتراطات مهنية مسبقة أو تحققاتٍ متسلسلة، فازدحمت المنصات بخطابٍ يتفاوت في الجدية والمعرفة والنزاهة، ومع أن هذا الانفتاح حمل فرصًا عظيمة للتثقيف والمشاركة، فإنّه فسح المجال -بحكم طبيعة الخوارزميات وحوافز الانتشار- لمدّعي التخصص كي يصوغوا حضورًا رقميًا لامعًا، يقدّمون عبره نصائح سريعة كثيفة الوعود، لكنها تخلو في كثير من الأحيان من الأسانيد الموثوقة أو الإطار المهني الذي يصون المتلقي من الضرر. ورغم أن مقولة «السوق يصحح نفسه» تبدو جذابة في عالم المحتوى، فإن الوقائع تشير إلى عكس ذلك حين تكون الصحة والأمن المالي والأسري على المحك، فالخوارزميات تميل إلى المحتوى المثير المقتضب، والمكافآت الرقمية تُمنح لمن يوفّق في صناعة «ترند» أو حصد تفاعلات قياسية، ما يشجع على تبسيط القضايا المركبة، أو تقديم وعودٍ درامية تغيّب الإحاطة بتحفظات العلم وضوابط المهنة، ومن هنا بزغت فئة «الخبراء المزعومين» الذين يصوغون سردية ذات وجهين: وجهٌ علنيٌّ يوحي بالإيثار وخدمة الجمهور، ووجهٌ مضمر يحوّل المتابع إلى عميلٍ أو مستهلك في خطة تسويقٍ مُحكمة. ويوظّف هؤلاء منظومة خطابية متقنة: لغة ألفةٍ حميمية تزيل الحواجز («نحن أسرة واحدة»، «سأكشف لكم أسراري المهنية»)، وحكايات نجاحٍ مُنتقاة بعناية، ونبرة يقينٍ لا تحتمل التردد، وإشاراتٌ خفيفة إلى شهاداتٍ أو ألقابٍ يصعب على المتلقي التحقق من مصدرها. وحين يحين الوقت، تُدمج الرسالة الترويجية داخل النصح العام اندماجًا لا يثير الريبة للوهلة الأولى؛ فالتوصية القانونية تتلوها دعوة للتواصل الخاص، والنصيحة الصحية تتكئ على عرض برنامجٍ «مجرّب»، والتحليل المالي يمرّ عبر منصة شراكةٍ أو رابط إحالةٍ لا يظهر للعيان إلا لمن يدقق. خبير المهنة ويتبدى أحد أوجه الخطر في قطاعاتٍ المهنية الحساسة التي تتطلب ترخيصًا وتدريبًا عميقين؛ فالقانون والطب والصحة النفسية والتمويل مجالات لا تحتمل الخفة، لأن الخطأ فيها يترك أثرًا مباشرًا على الحقوق والسلامة والجيوب. وما يزيد الطين بلّة أن جمهور المنصات -خصوصًا من فئة الشباب- يميل إلى افتراض المصداقية استنادًا إلى شيوع الحساب وبهاء العرض وكثرة المتابعين، لا إلى سيرةٍ مهنيةٍ موثقة أو مؤهلاتٍ قابلةٍ للتحقق، وهنا ينجح «خبير الشاشة» في أن يحل محلّ «خبير المهنة»، مستندًا إلى كاريزما الأداء وحضورٍ بصري ومؤثراتٍ تقتنص الانتباه، حتى إذا دُقّق في مضمون النصيحة، وُجد أنها لا تتجاوز عمومياتٍ أو وصفاتٍ جاهزة، وأحيانًا تنطوي على تبسيطٍ مُخلّ أو مجازفاتٍ مبطنة. التسويق الخفي وليس الإعلان المقنّع جديدًا على علم التسويق، لكنه اكتسب في البيئة الرقمية قوالب أدهى وأقل قابليةً للاكتشاف، ف»التسويق الخفي» يقوم أساسًا على تمرير الرسالة الإعلانية دون أن يتنبه الجمهور إلى أنه أمام إعلان. وفي فضاء المؤثرين «المهنيين»، يتجلى ذلك في إدراج منتجٍ داخل مشهدٍ إرشادي على أنه جزء «طبيعي» من تجربة الخبير، أو استعراض «حالةٍ واقعية» تنتهي إلى الإشادة بخدمةٍ بعينها، أو ترويج «حلٍّ نهائي» لمعضلةٍ مركبة عبر برنامجٍ يُباع على رابطٍ مرافق. وإذا كان المؤثر في نمط «الترفيه الخفيف» يعلن تجارته على نحوٍ مباشر غالبًا، فإن المؤثر الذي يرتدي عباءة الاختصاص يمرّر الإعلان مُضمّنًا داخل سلطةٍ معرفيةٍ مُدّعاة، ما يجعل أثره أشد خفاءً وأطول مدى. سلوك الجماهير وتنعكس هذه الممارسات على سلوك الجمهور وقراراته بطرقٍ متعددة، ففي مجال الاستثمار -على سبيل المثال- قد يندفع متابعٌ وراء توصية سهمٍ برّاقة مدعومةٍ بخطاب يقين، دون أن يدرك تضارب المصالح الكامن وراء التوصية، أو قصور التحليل المعروض عن مراعاة الفروق الفردية في الأهداف والمخاطر، وفي المجال الصحي، يتلقى الناس موجاتٍ من «الوصفات السحرية» التي تربك فهمهم لمبادئ الطب الوقائي والعلاجي، فتارة تُبسَّط اضطراباتٌ معقدة في دقائق، وتارة يُساء استخدام مصطلحاتٍ علمية لإضفاء وجاهةٍ على ادعاء، وتارة تُختزل مسارات العلاج في تمارينَ أو برامجَ عامة لا تراعي الفروق بين الأفراد. وفي الشأن الأسري، يُدفع بعض الأزواج والوالدين إلى تجريب تكتيكاتٍ متطرفةٍ أو قطيعةٍ «علاجية» دون سندٍ مهني، فتتفاقم النزاعات بدل أن تُحل. وعلى المستوى القانوني، تُبث نصائح عامة لا تميّز بين حالاتٍ متباينة من حيث الوقائع والاختصاص القضائي، فيقع المتلقي في انتهاكٍ دون قصد -أو يظن أنه استند إلى «رأي خبير»- بينما لم يحصل، في الحقيقة، إلا على تلويحةٍ دعائية مقنّعة. نقد المؤثرين ومع ذلك، لا يمكن اختزال المشهد في نقد المؤثرين وحدهم؛ فالمسؤولية تتوزع بين بيئةٍ رقميةٍ تشجع أسلوب «السريع الجذاب»، وجمهورٍ يمنح ثقته لأسرع الأصوات لا لأوثقها، ومؤسساتٍ إعلاميةٍ تقع أحيانًا في فخّ تعزيز هذه الأسماء سعيًا للمشاهدة والانتشار، فتستضيفها على الشاشات دون تدقيقٍ كافٍ في المؤهلات، أو دون وضع أسئلةٍ مهنيةٍ تكشف عمق المعرفة من سطحيتها، ولعلّ بعض هذا الخلل يعود إلى تصورٍ خاطئ يساوي بين الشهرة المهنية والشهرة الرقمية، بينما هما أمران مختلفان؛ فالأولى تُكتسب عبر تراكم خبرةٍ وأبحاثٍ واعتمادٍ مؤسسي، والثانية يمكن أن تُصنع بحسن إدارة الواجهات وتوظيف الخوارزميات. مشاهير الفلس ويجد هذا الواقع صداه في مصطلحٍ شعبي شاع في منطقتنا خلال السنوات الماضية هو «مشاهير الفلس»، في إشارةٍ إلى فئةٍ من صناع المحتوى الذين يجعلون من الضجيج والتفاهة سلعةً رائجة لجذب الإعلانات دون قيمةٍ معرفيةٍ أو جماليةٍ تُذكر، وإذا كان ضرر هذا النمط أكثر وضوحًا لأنه يبدّد الوقت ويشوّه الذائقة، فإن النمط الذي يتخفى بعباءة «الخبرة» يبدو، في نظر كثيرين، أخطر أثرًا، لأنه يتسلل إلى العقول بسلطة اللقب المهني، فيؤثر في القرارات المالية والصحية والأسرية، ويهز ثقة المجتمع بالمعرفة المتخصصة ذاتها. ومن هنا تتعالى الدعوات إلى التعامل مع الفئتين معًا بجديةٍ وحزم، لا على قاعدة التضييق على التعبير، بل على قاعدة إنفاذ المعايير المهنية والشفافية حين يتعلق الأمر بمحتوى استشاري يمس مصالح الناس مباشرة. الجهات التنظيمية ويبرز دور الجهات التنظيمية المختصة -وفي مقدمتها الهيئة العامة لتنظيم الإعلام- بوصفها الحارس الذي تقع على عاتقه مهمة ضبط الإيقاع بين انفتاحٍ لازمٍ للتعبير والإبداع، وبين حمايةٍ واجبةٍ للمجتمع من الفوضى والتضليل، ويكاد المراقبون يجمعون على أن الأدوات المتاحة اليوم باتت أقدر على تحقيق هذا التوازن مما كانت عليه سابقًا، شريطة أن تُصاغ الأطر التنظيمية بوضوح، وأن تُفعّل آليات المتابعة والجزاء بنظامٍ عادلٍ متدرج. ومن بين المقاربات التي يقترحها المختصون في هذا السياق، وضع نصوصٍ نظامية تُجرّم التضليل تحت ستار النصيحة المهنية، وتُلزم كل من يقدم محتوى استشاريًا مدفوعًا أو مدعومًا تجاريًا بالإفصاح الصريح عن ذلك، كما تُحمّل صاحب المحتوى مسؤولية التحقق من المعلومات التي يقدمها في المجالات الحساسة. كذلك، يُطرح توسيع نطاق الترخيص ليشمل المؤثرين الذين يزاولون خطابًا «مهنيًا» ذا أثرٍ مباشر على الجمهور، على أن يقترن الترخيص بمدوّنة سلوكٍ واضحة المعايير: عدم تقديم استشارات فردية علنًا دون دراسة الحالة، واجب التحري العلمي، احترام الخصوصية، تجنب تضارب المصالح أو الإفصاح عنه بجلاء، والامتناع عن استخدام الألقاب والصفات المضللة. ولا يتوقف الأمر عند التشريع؛ فمتابعة المحتوى في فضاءٍ واسعٍ وسريع الإيقاع تتطلب أدواتٍ ذكية تستفيد من تقنيات الرصد الآلي، بحيث يمكن التعرّف إلى أنماطٍ متكررة للمخالفات، أو رصد ادعاءاتٍ مهنيةٍ بلا سند، أو تعيين محتوى يروّج لممارساتٍ صحيةٍ مضرة تحت غطاء «التثقيف»، وحين يُضبط حسابٌ أو صاحب محتوى متلبسًا بمخالفةٍ جسيمة، تتدرج الإجراءات ابتداءً من التنبيه والتصحيح العلني، وصولًا إلى الغرامات وتعليق الترخيص أو سحبه، بل ومنع الظهور الإعلامي لفتراتٍ محددة في الحالات المتكررة أو ذات الضرر الواسع. المسؤولية المجتمعية وتتقاطع الإجراءات التنظيمية مع مسؤوليةٍ مجتمعية لا غنى عنها، تتمثل في الارتقاء بثقافة التحقق لدى الجمهور، وغرس مبادئ «المواطنة الرقمية» في المدارس والجامعات، وتزويد الأفراد بمهارات تمييز الخبرة الحقيقية من الزائفة، فالسؤال الأول الذي ينبغي أن يتبادر إلى الذهن عند تلقي أي نصيحة على الشاشة: من هو المتحدث؟ ما مؤهلاته المعتمدة؟ هل يفصح عن أي مصلحةٍ تجارية؟ هل يورِد تحفّظاتٍ منهجية تعكس إدراكه للتعقيد؟ وما مصادره؟ إن تطوير هذه العدّة العقلية لدى المتلقي، مقرونًا بإجراءات الإفصاح المفروضة على صناع المحتوى، يخلق بيئةً تتضاءل فيها فرص التسويق المتخفي، ويعلو فيها شأن المشورة المهنية الرصينة. في المقابل، تقع على المؤسسات الإعلامية التقليدية مسؤولية إعادة النظر في من تستضيفهم وكيف. لا يكفي أن يكون الضيف ذا حضورٍ رقمي، بل ينبغي أن يكون ذا سيرةٍ مهنيةٍ مثبتة في مجاله، وأن يخضع، على الهواء، لأسئلةٍ تكشف عمق المعرفة وتختبر الادعاءات، ويمكن للبرامج الحوارية الجادة أن تلعب دورًا في «فرز الغث من السمين» عبر مناظراتٍ مهنية تجمع بين مختصين معتمدين ومدّعي الخبرة، بحيث تتضح للناس -بالحجة والبيان- الفروق بين العلم والتلاعب، وبين المشورة القائمة على أصولٍ وبين «وصفاتٍ سريعة» تُباع على منصاتٍ لامعة. هذا الدور، حين يُؤدى بمسؤولية، يعيد الثقة إلى الشاشة الكبيرة، ويحدّ من انجراف الجمهور وراء بريق الشاشات الصغيرة. ومن المفيد كذلك تشجيع المحتوى البديل الإيجابي وإبرازه، فكما نجحت الخوارزميات في جعل «المثير والجادب» متصدرًا للمشهد، يمكن لسياسات المنصات، إن تعاونت مع الجهات التنظيمية، أن تمنح أفضليةً للمحتوى التثقيفي الرصين الذي يستوفي معايير الإفصاح والموثوقية، وفي الوقت نفسه، يستطيع القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية والمراكز البحثية أن تدعم مبادراتٍ تستقطب الخبراء الحقيقيين إلى الفضاء العام، عبر منصاتٍ تُدار مهنيًا وتقدم المعرفة بلغةٍ مبسطة دون إخلال، فتكون بديلًا جاذبًا للخطاب السريع المُضلل. إننا بحاجة إلى قصص نجاحٍ جديدة تُظهر أن الجمع بين «الانتشار» و»المعرفة» ممكن، وأن الحضور الرقمي الرفيع لا يلزم أن يكون قرينًا بالتسطيح أو التسويق المقنّع.