تعيش المملكة العربية السعودية مرحلة استثنائية من التحول الشامل، أعادت فيها تعريف مفهوم التنمية والهوية معًا. فبينما تمضي رؤية السعودية 2030 بخطاها الطموحة في تنويع الاقتصاد وتمكين الإنسان، تتشكل بالتوازي هوية سعودية جديدة تتوازن فيها الأصالة مع الانفتاح، لتعبّر عن واقع الدولة الحديثة دون أن تنفصل عن جذورها. تكمن أهمية هذا التحول في أنه يتجاوز حدود الثقافة إلى عمق الاجتماع والسياسة، فحين تتحرك القيم والمفاهيم بنفس سرعة التحولات الاقتصادية، تصبح الهوية الوطنية الضمانة الكبرى للاستقرار، ولهذا فإن بناء هوية متجددة لا يقل أهمية عن بناء المصانع أو المدن الذكية، وتشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء لعام 2024 إلى أن 82 % من الشباب السعوديين بين 18 و35 عامًا يشعرون بفخر قوي بانتمائهم الوطني، وهي نسبة ارتفعت بنحو عشر نقاط خلال خمس سنوات، في مؤشرٍ واضح على نجاح الدولة في ترسيخ الانتماء في جيلٍ يعيش مرحلة التغيير الأكبر في تاريخ المملكة. لم تعد الهوية السعودية كما كانت في العقود الماضية صورة جامدة لماضٍ يُحتفى به، بل غدت مشروعًا مستقبليًا يتغذّى من التاريخ ويستجيب للعصر، فهي تتكئ على القيم الوطنية والاجتماعية الراسخة، لكنها تنفتح على الفنون، والإبداع، والتعليم الحديث، واللغة، والابتكار، وتتعامل مع العالم بلغة الثقة لا التوجس، هذه المعادلة الدقيقة هي ما يمنح المملكة خصوصيتها في محيط عربي يراوح غالبًا بين التقليد والحداثة. ومن يتأمل المشهد الثقافي والاجتماعي يلحظ حجم التحول الهادئ والعميق، فالموسيقى والمسرح والفنون البصرية أصبحت اليوم جزءًا من الهوية الثقافية الوطنية، والسياحة الداخلية والدولية تحوّلت إلى مساحة للحوار الحضاري، والتعليم يعيد صياغة مفاهيم الانتماء والمواطنة في مناهجه، إنها هوية تتسع دون أن تتنازل، وتندمج مع الحداثة دون أن تذوب فيها. لقد تحوّلت رؤية 2030 إلى أكثر من خطة اقتصادية؛ إنها مشروع لإعادة تعريف السعودية في القرن الحادي والعشرين، فالتغيير الذي تقوده المملكة اليوم ليس في المظهر فقط، بل في طريقة التفكير: انفتاح على العالم من موقع الثقة، لا من موقع الحاجة. ولكي تستمر هذه التجربة بثبات، فإن المرحلة المقبلة تحتاج إلى تعميق هذا التوازن بين الانفتاح وحماية القيم، فالتربية الوطنية الحديثة يجب أن تواكب التحولات الاجتماعية، وأن تغرس في الأجيال الشابة فخرهم بهويتهم دون أن تحولها إلى شعارات، كما أن دور التعليم والإعلام والمؤسسات الثقافية يتعاظم في صياغة خطاب وطني يعكس الثقة والانفتاح معًا، ويقدّم للعالم صورة سعودية حديثة متصالحة مع ذاتها ومصدر إلهام لغيرها، وفي هذا السياق، من المهم دعم الإنتاج الثقافي والفني الوطني، ليكون وسيلة للتعبير عن القيم لا انعكاسًا للثقافات الأخرى. إن ما يميز الهوية السعودية الجديدة ليس قدرتها على التكيّف مع التغيير فقط، بل على قيادته، فالمملكة اليوم لا تكتفي بالتفاعل مع المتغيرات، بل تصنع نموذجها الخاص في الانفتاح المقرون بالانتماء، حيث تصبح الأصالة مصدر قوة لا قيدًا، والانفتاح وسيلة تقدم لا ذوبانًا. وفي النهاية، تبقى الهوية السعودية الجديدة مشروعًا مستمرًا في التكوين، يتجدد مع كل إنجاز ومع كل جيل، إنها هوية تُبنى بالعقل والقلب معًا، تُوازن بين الدين والعلم، بين المحلية والعالمية، بين التراث والمستقبل، إنها رسالة السعودية إلى العالم: يمكننا أن ننفتح دون أن نفقد أنفسنا، وأن نتطور دون أن نقطع صلتنا بجذورنا، تلك هي هوية المملكة في القرن الحادي والعشرين متجذّرة في القيم، منفتحة على العالم، وواثقة أن مستقبلها يصنعه أبناؤها بروحٍ جديدة تعانق الأفق وتبقى مخلصةً للأصل.