في غابةٍ كثيفةٍ يسكُنها الخوف، تتشابك جذور الصنوبر في طينٍ مشبعٍ بالصمت، الشمس تختبئ بخجل، خيوطها تحتضر بين الأغصان، ورائحة الطين تختلط بالترقّب. لا يُسمع في هذا المكان إلا عواء الرياح، تحاول جاهدةً كسر زهو الأشجار، تخوض حربًا لا تنتهي مع جذورٍ تعاند الزمن. وسط هذا الصراع، ضلّ طفلٌ طريقه، والطين يلتصق بقدميه كأيدٍ لا تريد أن تتركه، كأن الغابة تسحبه إلى أحضان الموت، الخوف يلتهم روحه، وعيناه المثقلتان بالغصّات تبحثان عن مخرجٍ لا وجود له، ظل يسير في دروب الغابة حتى ارتطم جبينه بحجرٍ خفيّ، سقطت قطرات دمه، فاختلطت بالطين وبرائحة الصنوبر العتيق، كأن الأرض تستلذّ بروحه. في أعالي الأشجار، كانت بومةٌ بيضاء تراقب المشهد بعينيها المشبعتين بالحكمة والصمت، لم تُصدر صوتًا، لكنها رأت كل شيء: رأت الطفل وهو يغصّ بدموعه، وشمّت رائحة خوفه، ورأت الغابة وهي تتربّص به تريد أن تبتلع صوته. حلّ الظلام، وأصبحت الغابة أكثر قسوة، تحوّلت إلى كائنٍ غامض، أنفاسه باردة، يمدّ مخالبه ليقتلع آخر ما تبقّى من روح الطفل، غير أن البومة، بعينيها الحكيمتين، أرسلت همسةً عبر الريح، تنتظر اللحظة التي يكتشف فيها الطفل أن الخوف لا يقتله... وأن كل ندبة في جبينه هي ختمٌ من الأرض يشهد على مقاومته، وكيف رأى الموت وعاد حيًّا، شعر الطفل بنظرتها تخترق ظلامه، وللحظة، تخيّل أنها تعرف طريقًا لا يراه. حلّقت البومة، ونظراتها تغوص في أعماقه، فتبعها بخطواتٍ مثقلة، اختلطت برائحة الصنوبر وأنفاس الظلال المنبعثة من الأرض، حتى رأى النجمةَ البعيدة في السماء، فصرخ بصوتٍ كسر صمت الغابة، وحملته روحه نحو النجمة. سكتت الأشجار، وبدت البومة ترفرف بجناحيها في سكون السماء. لم يعرف الطفل أنّه قد نجا، لكنّه أدرك أن صوته وُلد من جديد.. وأن الغابة لم تعد قادرة على ابتلاعه، وأن ندوبه ختمت حياته بالصمود.