المتأمل يجد أن وسطنا الرياضي عاجز عن تحمل ضوء الحقيقة، فغالبية الأخبار والقصص فيه تُبنى على الظنون والرغبات، فتكفي إشاعة عابرة ليجري تداولها حتى تكتسب صفة القطعية بين ليلة وضحاها، ويُنظر لمن يطالب بالتحقق بعين الريبة وكأنه يهدد الولاء أو يشكك في رموز النادي والمنتمين له. في هذه الأجواء، تبرز مأساة العقل الجمعي (القطيع) الذي يرفع من شأن العاطفة ويقمع السؤال، فلا يبقى في الساحة إلا أصداء الشائعات والتخرصات والافتراءات التي تتكرر بلا توقف، ومن المؤلم أن تجد البعض يضيق صدره من أبسط قواعد التفكير السليم، كأن احترام السؤال أو طلب الدليل صار خروجًا عن طبيعة الأشياء، ولو أن هذا الوسط، -وغيره من الأوساط- تعود أن يُثمن السؤال ويُعلي من قيمة الدليل، لانحسرت مساحات الشائعات وتراجعت، لكن ما دامت العبارات الفارغة تستحوذ على المشهد، سيظل العقل الواعي غريبًا، والسؤال الجريء تهمة لا تُغتفر. ووسط هذا الهرج والمرج يغدو العقل النقدي عملة نادرة، ويجد المرء نفسه مطالبًا بالاعتذار فقط لأنه يطلب الحقيقة أو يتحرى الدقة، وتزداد هذه الظاهرة وضوحًا في المنصات الرقمية من مساحات x، وغروبات واتس، ومنصة سناب شات، حتى صارت ملمحًا متكرراً في تفاصيل مشهدهم اليومي، فتتكاثر الشائعات والاتهامات والتخمينات، ويصبح الصوت العاقل المطالب بالدليل غريبًا ومتهمًا بالخروج عن السرب، إذ كل شيء هنا قابل للتغير والانقلاب في لحظة، فالشائعة الصغيرة قد تتحول لديهم إلى موجة تجرف من يعترض طريقها. المنطق يتوارى في هذه البيئة خلف ستار الحماس والأهواء، ويصبح مجرد السؤال أو محاولة التثبت سلوكًا مستفزًا يراه البعض تشكيكًا في الانتماء أو محاولة لهدم الإجماع حول الشعار وكأن هذا الوسط اختار العيش في دوامة دائمة من المبالغات، متلذذًا ومستمتعًا بلعبة الشائعات والتنجيم الرياضي بينما الحقيقة تقبع في الزاوية تنتظر من يتحلى بالشجاعة ليكشف عنها. تغذي هذه البيئة الموبوءة بالشائعات حالة من القبول الساذج، فلا مكان فيها للصوت المختلف أو الباحث عن الدليل، كل من يحاول كسر هذه القاعدة ويطرح سؤالًا يُقابل أحيانًا بالسخرية أو الإقصاء، لأنه يزعج راحة الجماعة التي اعتادت التصفيق لكل ما يوافق أهواءهم، فالمعلومة الصحيحة ليست بتلك الأهمية، طالما أن الانتصار اللحظي أو تأكيد الرواية المفضلة هو الغاية، ويبقى الصوت العاقل في عزلة وسط ضجيج لا يهدأ. وما يدعو للأسى أننا نجد أنفسنا أسرى لكل شائعة أو ادعاء يُقال بثقة، ونفقد تدريجيًا القدرة على السؤال وجرأة المطالبة بالحقيقة، ووحده الوعي النقدي هو القادر على إنقاذنا من الغرق الجماعي في بحار الأكاذيب وإعادة الاعتبار للعقل، حتى وإن ظل السؤال الجريء صوتًا نشازًا وسط موجة التصفيق والتصديق الأعمى. حمود الفالح