يبدأ تشكل الذكريات في عقولنا منذ السنة الثالثة من أعمارنا -هكذا يقول العلماء-، ثم إن هذه النبتة الغضة في وجداننا، تزداد مع الأيام إصرارًا على التمكن والرسوخ، كالمياه حين تنساب من سطح الأرض إلى باطنها، تتجاوز التربة والصخور إلى مستقرها في أعماق الأرض، إلى أن تُستخرج ماءً زلالًا أو ملحًا أجاجًا! لم تغب الذكريات عن اهتمام العلماء والكتاب والأدباء والشعراء والرسامين، كل أولئك وغيرهم حاولوا التنقيب في حقولها أملًا في الظفر بفهم طبيعتها، أو طمعًا في تذوق ذلك الشوق المجلوب من قلب الغيابات والمسافات، كثيرون هم من اجتازوا مفازاتها وسبروا أغوارها وما عادوا إلا بالتمنيات على ما مضت به الأيام ولن يعود! يتأمل أحدهم لوحة جدارية بديعة عنوانها: إصرار الذاكرة، رسمت تفاصيلها أنامل فنانٍ عالمي مُبدع، يُمعن "صاحبنا" النظر محاولًا قراءة الخطوط، الألوان، والأبعاد.. يا للروعة والجمال في تفاصيل اللوحة – هكذا علق-، و لكن ما فكرتها وما معناها؟ هُنا أيها المتأمل فتش عن الذاكرة، فالمعنى في أغوارها، حيث الماضي المخبوء في ذاكرة الرسام، أو عمم السؤال وفتش في ذاكرة الرفاق، فللذكريات بيئتها وحكاياتها ورموزها! هي الذكريات، ذلكم الشعور الإنساني العميق نحو الماضي، تتأملها في لوحةٍ جدارية أبدعها أحدهم، فإذا بك أمام مجرد نافذة، نافذةٍ تُطِلُ على الأمس، هي الذكريات في قصيدةٍ مفعمةٍ بالوجع، تسمع وقع كلمات قائلها وكأنما هي خطواتٌ تنشد الهروب من الحاضر، ولأن المستقبل مجهول، فلا وجهة لها غير الماضي! هي الذكريات في كتابة أديب مداد قلمه حبرٌ وحنين، يكتب عن الغياب، عن الأشواق، عن ما تبقى بعد عاصفة النسيان. دعنا منهم جميعًا وهيا نفتش في مساحات الملل والأمل في حياتنا، كم مرةً فقدنا الطريق وعدنا على الأثر، نحاول الإمساك ببارقة أملٍ لا تنقدح إلا من شعلة الذاكرة؟ كم مرةً خذلنا رفاق اليوم فأسقطناهم بذكرى عظيمة لرفاق الأمس؟ وهكذا نحن كلما شعرنا بفقدان الهدف وبخذلان الصديق، كلما أرهقتنا الأيام وعدنا نروي ظمأنا من معين الذكريات ونبني هممنا من أمجاد الأمس! ستبقى الذكريات وجهة حياة، مزيج الحلاوة والمرارة في نفوسنا، تستحثها قصيدة، أغنية، رائحة قهوة، عطر، صورة، أطلال الأماكن، وجوه العابرين في أيامنا ومواقفهم معنا، انتصارات الأمس نداوي بها جُروح اليوم! كل ذلك وأكثر مُرتسمٌ على جدار الذاكرة، وجهةٌ تستحق العودة لها بين الحين والحين، لكنها ليست مستقرًا آمنًا لمن ينشد العبور مع نهر الحياة، إذ إن الحياة الآن، والآن فقط.