أعود في هذا المقال إلى ما بدأته سابقًا حول قرارات تجميد الإيجارات الموفقة ودور الديموغرافيا في كشف عوامل الفشل التجاري وإعادة ضبط السوق. وإذا كان التجميد لخمسة أعوام قد يكشف هشاشة كثير من المشاريع المكررة، فإن ما تكشفه شوارع الأحياء اليوم يفرض نقاشًا أكثر ضرورة: هل نحن بحاجة إلى وقف التوسع التجاري في بعض الأحياء السكنية وتحويلها إلى أحياء أكثر إنسانية وحيوية؟ بالتحديد هستيريا المقاهي الفارغة ومحلات الشيشة التي تحتاج ضبط تراخيص فورية لكثرتها وضررها في وسط الأحياء العائلية بل من المحرج أن ترى محل شيشة ملاصق لصيدلية طبية!، والنموذج يمكن رؤيته في الكثير من الأحياء. حي الملقا مثال حاضر دائمًا، ليس فقط بسبب ازدحامه، بل لأن تساؤلات كثيرة تُطرح حول لماذا تفشل الأعمال فيه رغم كثافة السكان وقوة الطلب المفترضة؟ والجواب بسيط لكنه قاسٍ: لأن التجار لا يفهمون ثقافة الحي ولا نوعية سكانه. فالأسر الشابة هنا لا تحتاج إلى المقاهي الرديئة المتكررة التي تُفتح ثم تُغلق سريعًا، أو حتى محلات الأطعمة الدهنية والضارة، بل تحتاج إلى خدمات نوعية تلبي احتياجاتها الفعلية. تجاهل هذه الحقيقة جعل كثيرًا من المشاريع تدور في حلقة مفرغة من التقليد والفشل، ثم يُلقى باللوم على "الأسعار" أو "ضعف السوق" بينما المشكلة الحقيقية في سوء قراءة المجتمع. خلال السنوات الأخيرة أصبح من الواضح أن بعض الأحياء لم تعد تحتمل المزيد من الأنشطة التجارية. حي الملقا وحطين وغيرها، يكفيهم وجود مشاريع ضخمة وما تسببه من تكدس في الشوارع وازدحام مرهق للسكان. مشاهد الحفريات المستمرة وإصلاحات الطرق تعكس نتيجة طبيعية لغياب التخطيط المتوازن بين النشاط التجاري والسكاني. في هذا السياق يصبح منطقيًا أن يُطرح قرار جريء يمنع منح تراخيص تجارية جديدة في أحياء مكتظة مثل الملقا، حفاظًا على جودة الحياة التي نصت عليها رؤية 2030. التجارب العالمية تعطينا دلائل واضحة. ففي الولاياتالمتحدة، خصوصًا في أحياء مثل Beverly Hills بلوس أنجلوس أو Upper East Side في نيويورك، هناك ضوابط صارمة على منح الرخص التجارية للحفاظ على الطابع السكني، مع السماح فقط بأنشطة محدودة تخدم السكان مباشرة. وفي بريطانيا، شهدت لندن سياسات تحافظ على خصوصية أحياء مثل Kensington وChelsea، حيث تفرض البلديات قيودًا على المطاعم والمقاهي الجديدة، وتضع حدودًا صارمة للتوسع التجاري العشوائي. أما فرنسا، فقد سبقت الجميع عبر نظام "المجالس المحلية للأحياء" في باريس، التي تتيح للسكان المشاركة في اتخاذ القرار حول النشاطات المسموح بها في حيّهم، مما جعل أحياء مثل Le Marais تحافظ على توازنها الثقافي والسكاني رغم كثافة الزوار والسياح. من هنا يبرز سؤال جوهري: لماذا لا تُنشأ مجالس خاصة للأحياء في الرياض والمدن السعودية الكبرى؟ مجالس حقيقية لا صورية لتشارك فيها الأسر، وتُمنح صلاحية إبداء الرأي في منح التراخيص، لتتحول إدارة الحي من مجرد إجراءات بلدية إلى منظومة تشاركية توازن بين رغبات السكان وطموحات المستثمرين. مثل هذا التوجه سيعيد الاعتبار لفكرة "المجتمع المحلي" التي بدأت تتآكل تحت ضغط التوسع التجاري وهستيريا المقاهي المقلقة. الأكثر من ذلك أن بعض الأحياء أصبحت بحاجة إلى آليات تنظيمية أكثر جرأة، مثل كروت الدخول التي تُمنح للسكان والزوار على حد سواء، كما يحدث في بعض المدن الأوروبية حين تُغلق الأحياء الفاخرة أمام حركة المرور العشوائية وتُخصص ممرات محدودة. قد تبدو الفكرة راديكالية، لكنها مع الازدحام الذي يعيشه الملقا والأحياء المشابهة لم تعد ترفًا، بل ضرورة لحماية جودة الحياة وحق السكان في بيئة آمنة وهادئة. إن خصخصة الأحياء ليست دعوة لإغلاقها أمام الاستثمار، بل لإعادة تعريف الاستثمار وفق احتياجات السكان الفعلية، وليس وفق شهية السوق المفتوحة بلا سقف. التوسع التجاري بلا وعي استنزف الأعصاب والطرق والهواء، وأرهق الناس قبل أن يرهق البنية التحتية. وآن الأوان لأن نقول: كفى. تجميد الإيجارات قطعا سيكشف وجها من أوجه الفشل التجاري، والمرحلة القادمة قد تكشف الكثير من الفشل التخطيطي. والفرصة اليوم أن ننتقل من إصلاحات جزئية إلى تصميم حضري شامل، يجعل من الأحياء السعودية نموذجًا عالميًا للأحياء الحيوية التي تضع الإنسان قبل المتجر. عندها فقط سنفهم أن النجاح ليس في كثرة اللوحات التجارية، بل في كثرة المساحات الإنسانية. فالمدن، في النهاية، لا تُقاس بعدد المقاهي ولا بسطوة اللوحات التجارية، بل بقدرتها على أن تمنح سكانها تنفسًا ومساحة هادئة للحياة. والحي الذي لا يُنصت لنبض أهله، محكوم عليه أن يختنق مهما تعددت استثماراته.