هو أحد الروافد الفكرية الهامة في الدراسات الإعلامية المعاصرة. فالسيميائية هي أحد الفروع النظرية التي نشأت في إطار الدراسات اللغوية والفلسفية ثم اتسعت لتصبح أداة تحليلية أساسية في مجال الدراسات الإعلامية والثقافية. يقوم هذا العلم على دراسة العلامات والرموز والإشارات وكيفية إنتاجها للمعنى وتبادلها بين الأفراد والمجتمعات. وبما أن وسائل الإعلام تقوم في جوهرها على إنتاج المعاني وتداولها عبر النصوص والصور والخطابات، فقد أصبحت السيميائية مدخلاً مهماً لفهم أعمق لوظائف الإعلام وتأثيراته السيميائية (أو السيميولوجي) هي العلم الذي يبحث في طبيعة العلامات وكيفية دلالتها على المعنى، سواء كانت لغوية أو بصرية أو سمعية. ويعود تأسيس هذا العلم إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عبر نظريات المفكر الفرنسي الشهير فرديناند دي سوسير، الذي أسس علم (السيميولوجي) بوصفه دراسة المعاني الاجتماعية والثقافية للعلامات والرموز. قال دي سوسير أن اللغة تنقسم إلى قسمين، هما (الدال) و (المدلول). فالعلامة، التي هي الصوت أو الصورة أو الإشارة، هي (الدال)، والفكرة أو الموضوع هي (المدلول) الذي تشير إليه (العلامة). وقال أن العلاقة بين (الدال) و (المدلول) ليست علاقة مباشرة أو سببية، بمعنى أن العلاقة بين الدال (الكلمة أو الشكل الصوتي أو الكتابة) والمدلول (المفهوم أو الفكرة) هي مجرد اتفاق اجتماعي أو اصطلاح لغوي داخل جماعة بشرية. بمعنى أنه لا يوجد رابط طبيعي أو منطقي أو سببي يفرض أن يكون هذا الصوت أو الشكل هو الذي يدل على ذلك المعنى. مثلاً، كلمة (شجرة) باللغة العربية وكلمة (tree) باللغة الإنجليزية كلاهما يشير إلى نفس المفهوم لكن بأصوات مختلفة. هذا يدل على أن العلاقة ليست طبيعية بل اصطلاحية. ثم قال دي سوسير إن اللغة تكتسب معناها من خلال العلاقة والترابط الداخلي بين أجزاءها. فالمعنى لا يستمد من علاقة الكلمة بالشيء الخارجي الذي تدل عليه فقط، بل من موقعها داخل النظام اللغوي. فالمعنى يتشكل من خلال الاختلاف بين الكلمات. فالكلمة تتحدد قيمتها مقارنة مع الكلمات الأخرى في النظام. مثلاً، معنى كلمة (ليل) يتضح من تضادها مع (نهار) ومع (صباح) ومع (مساء)، فالمعنى ناتج عن شبكة علاقات وفروق بين الأجزاء. إذن، الكلمات تعمل داخل نظام وشبكة من العلاقات يمكن تشبيهها بقطعة لعبة الشطرنج: قيمتها لا تأتي من ذاتها، بل من موقعها بالنسبة للقطع الأخرى، فإذا تغيرت العلاقات، يتغير المعنى أيضاً. وقال دي سوسير أيضاً أن العلاقات بين الكلمات تأتي على نوعين هما: العلاقة التركيبية، والعلاقة الاستبدالية. والمقصود ب (العلاقة التركيبية) هو علاقة (أفقية) أي كيف تنتظم الكلمات جنباً إلى جنب في سلسلة أو عبارة لتنتج معنى. على سبيل المثال، في عبارة: (السيارة الحمراء السريعة)، نجد أن كلمة (السيارة) هي الأساس و(الحمراء) تضيف وصف اللون و(السريعة) تضيف وصف الأداء. والنتيجة سلسلة متجاورة من الكلمات تعطي صورة دقيقة. أم (العلاقة الاستبدالية) فهي علاقة (عمودية) وهي الإختيار بين كلمة وأخرى من نفس الفئة المحتملة، مثلاً: بدلاً من (السيارة الحمراء السريعة) يمكن أن نقول: (السيارة الزرقاء السريعة) أي استبدلنا اللون، أو (السيارة الحمراء البطيئة) أي استبدلنا صفة السرعة. هذا يعني أن كل موقع في الجملة يمكن أن يحتوي على عدة بدائل بحيث يتغير المعنى وفقاً للاختيار. وفي وسائل الإعلام، مثلاً، كلمة (أزمة) يمكن استبدالها بكلمة (تحدي) أو (مشكلة) أو (كارثة)، وكل بديل يعطي دلالة مختلفة ويؤثر على المتلقي بطريقة مغايرة. من جهة أخرى، ساهم الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس بتطوير السيميائية عندما طرح منظوراً ثلاثياً للعلامات. يرى بيرس أن التفكير البشري قائم على العلامات التي تتألف من ثلاثة عناصر هي: (العلامة) وهي الشكل المادي أو الشيء الذي يقوم مقام شيء آخر (مثل كلمة شجرة، أو صورة شجرة، أو رمز لشجرة)، و(الموضوع)، وهو الشيء أو الفكرة التي تشير إليها العلامة في الواقع أو في الذهن (وهي الشجرة نفسها). ثم (الدلالة الناتجة) وهي الفهم والتفسير الذي يتولد في ذهن الفرد عندما يربط بين (العلامة) و (الموضوع). ويقول بيرس إن (الدلالة الناتجة) أو (المعنى) في هذه الحالة ليست علاقة ثابتة بين الرمز والشيء الذي يدل عليه، بل هي عملية متحركة ومفتوحة للتفسير المستمر. وهناك ثلاثة تصنيفات أساسية للعلامات من حيث دلالتها وهي: (الأيقونة) وهي العلامة التي تشبه موضوعها أو تحاكيه مثل الصورة الفوتوغرافية أو الخريطة. و (المؤشر) وهو العلامة التي ترتبط بموضوعها بعلاقة سببية أو مادية أو مكانية مثل الدخان مؤشر لوجود نار، أو أثر أقدام تدل على مرو شخص. ثم (الرمز) وهو العلامة التي تعتمد على العرف أو الإتفاق الاجتماعي، مثل الكلمات المكتوبة أو إشارات المرور أو ميزان العدالة أو حمامة السلام. وبناء على نظريات دي سوسير وتشارلز بيرس تطورت السيميائية (السيميولوجي) من كونها مشروعاً لغوياً وفلسفياً إلى أن أصبحت منهجاً مركزياً في تحليل الخطاب والثقافة. وفي منتصف القرن العشرين، ساهم المفكر الفرنسي رولان بارت في إدخالها إلى حقل الدراسات الثقافية والإعلامية، حيث طوّر مفهوم (الأسطورة) لتفسير الكيفية التي تُعيد بها وسائل الإعلام إنتاج المعاني الثقافية والإيديولوجية. والأسطورة عند رولان بارت لا تعني الحكايات الخيالية القديمة كما في معناها التقليدي، بل تشير إلى مستوى ثاني من الدلالة في الخطاب الثقافي. فالعلامة في نظر بارت تأتي على مستويين: المستوى الأول: (الدلالة المباشرة) أي المعنى الحرفي أو الوصفي. والمستوى الثاني: (الدلالة الأسطورية) حيث تتحول العلامة إلى حامل لمعاني ثقافية وأيديولوجية تستخدم كأنها طبيعية وبديهية. مثلاً، (الوردة) تمثل عند رولان بارت مثالاً واضحاً على عمل السيميائية في مستويين. في المستوى الأول، أي (الدلالة المباشرة)، تعني الوردة مجرد زهرة ذات شكل جميل ورائحة عطرة. أما في المستوى الثاني، أي (الدلالة الأسطورية)، فإن الوردة تتجاوز كونها زهرة لتصبح رمزاً محملاً بمعاني ثقافية: فهي قد تدل على الحب في بطاقات المعايدة، أو على الرومانسية في الأفلام، أو حتى على الوطنية عندما ترتبط بألوان أعلام أو رموز قومية. هنا تتحول الوردة من كائن طبيعي إلى علامة ثقافية تخفي طابعها الاصطناعي وتستخدم كمعنى طبيعي وبديهي. ومن أشهر أمثلة النقد السيميائي عند رولان بارت تحليله لصورة جندي فرنسي من أصول أفريقية يؤدي التحية للعلم الفرنسي. رأى رولان بارت في صورة الجندي الأسود وهو يؤدي التحية للعلم الفرنسي، التي ظهرت في إحدى المجلات الفرنسية في خمسينيات القرن العشرين، مثالاً نموذجياً على عمل الأسطورة في الخطاب الثقافي. فالمستوى الأول من الدلالة يبدو بسيطاً: جندي أسود يرفع يده بالتحية الرسمية. لكن عند الانتقال إلى المستوى الثاني (الأسطورة) تتحول الصورة إلى خطاب أيديولوجي يروّج لفكرة أن فرنسا أمة عادلة ومتعددة الأعراق تحتضن أبناء مستعمراتها. غير أن هذا المعنى (الطبيعي) يخفي الواقع التاريخي المتمثل في الاستعمار والتمييز العنصري. وبذلك كشف بارت كيف يمكن للصورة الإعلامية أن تعيد إنتاج أيديولوجيات السلطة عبر تقديمها كمعاني بديهية لا نقاش فيه. فرديناند دي سوسير