خلّد الأدبُ تجارب القدماء الإبداعية التي تتحدث عن الوطن، وثقافته، وحضارته، كما فعل السومريون في ملحَمتهم الشعرية (جِلجامِش) وكما فعل اليونان، والرومان، والهنود، والفرس في ملاحمهم الشعرية المعروفة التي تستعرض تاريخهم الوطني، وتصف ثقافاتهم، وحضارتهم، وإنتاج أدبائهم، فكانت تلك الملاحم الشعرية من أقدم الأعمال الأدبية في الشعر العالمي، حيث كانوا يضمّنون في ذلك الشعر شيئًا من إرثهم المتنوع، واستعراض الحكايات الأخلاقية، والأساطير الشعبية، والطرائف المليئة بالتعاليم المتنوعة، والمبادئ الفلسفية، فمن ههنا تبدو وطنية الأدب والثقافة في كونها تكشف عن الخصوصية الثقافية، والهوية المجتمعية للشعوب والحضارات، كما أنها تنشد المحافظة على الموروث الشعبي، والقيم المحلية، مع تشجيع الإبداع المحلي، وانفتاحه على الثقافات الأخرى لتعزيز التبادل المعرفي، والتواصل الحضاري، بحيث يصبح الأدب وطنيًّا. وفي العصر الحديث نجد نماذج من الاعتناء بالأدب الوطني واضحة في كثير من المؤلفات الأدبية، والملاحم الشعرية، ويمكن أن نلمس عند الفرنسيين شيئاً من هذا اللون في الشعر الذي تترجمه ملحمتهم الشعرية المعروفة ب (ملحمة رولاند)، وهي أقدم عمل عُرف في التراث الأدبي الفرنسي، (حوالي عام 1100م) ، وتُعد تحفة هذا النوع الأدبي. ثم وجدنا بعد ذلك كيف توالت الآداب الأخرى التي تعلي من شأن وطنها، وترفع من مستوى حضارته، وتسهم في توسيع دائرته الإبداعية، ونطاقه الثقافي، كما هو الحال في الأدب الروسي، والأدب الإنجليزي، والأدب الإيطالي، والأدب الأسباني، والأدب الأمريكي، وغيرها من الآداب. وقد احتفى أدبنا العربي الحديث في تعزيز بطولات الوطن وأمجاده، على نحو ما صنع الشاعر الكويتي خالد الفرج (1954م) في ملحمته الشعرية الطويلة التي نظمها في سيرة الملك عبد العزيز -رحمه الله- وقد سماها (أحسن القصص)، وهي ملحمة شعرية شهيرة، يمكن أن نعدها ملحمة شعرية سعودية؛ ذلك أن موضوعها سعودي، وتناولت الملاحم البطولية السعودية للقائد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيّب الله ثراه- والجميل في هذه الملحمة أنها لقيت احتفاءً عربيًّا، حيث طبعت في القاهرة في حوالي 130 صفحة، وذلك عام 1929م، وقدّم لها محمد علي الطاهر، ثم راجعها عالم قطر الشيخ عبد الله الأنصاري، ثم طُبِعت في الدوحة عام 1982م، ويمكن أن نعدّ هذه الملحمة من المطوّلات الشعرية الأشهر في العصر الحديث، أو ربما ساغ لنا وصفها بآخر الملاحم الشعرية العالمية، منذ ملحمة (جلجامش) إلى يومنا هذا. وفي هذه الملحمة الشعرية تبدو الملامح الوطنية جلية في تسليط الضوء على البطولات، والمنجزات، حيث سعى الشاعر من خلالها إلى تغطية العقود الخمسة الأولى من حياة الملك عبد العزيز -طيّب الله ثراه- منذ ولادته سنة 1876م، إلى زمن قريب من زمن توحيد المملكة العربية السعودية، وهو (23 سبتمبر1932م، الموافق 21 جمادى الأولى 1351ه)؛ ولذلك تعد هذه القصيدة الوطنية أنموذجاً نادراً للشعر الملحمي الحديث. وهنا أقول: لعل مثل هذه الملاحم الشعرية تفتح باباً لشعرائنا السعوديين في نظم ملحمة شعرية جديدة، تبدأ تحديداً من تاريخ توحيد المملكة العربية السعودية، إلى يومنا هذا الذي يشهد فيه الوطن نماءً ورخاءً، ومنجزاتٍ كثيرةً، في ظل حكومتنا الرشيدة -أيدها الله- بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله-، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود -وفقه الله- ولا سيما أن الأدب والثقافة في عصرهما شهدا تطوراً هائلاً يستحق أن يُرصَد في الذاكرة الشعرية.