في لحظة عابرة، تستمع إلى اتصال هاتفي بين زميلين، محوره انتخابات هيئة مهنية، لم يكن الحديث عن برامج انتخابية، أو خطط تطويرية، أو حتى أولويات المرحلة، بل كان اختزاله في جملتين: "ادعموا فلانا.. رشحوا فلانا". مشهد قد يبدو عاديًا، لكنه في جوهره مرآة لذهنية أعمق؛ ذهنية تحوّل الانتخابات من منصة لاختيار الأكفأ، إلى مضمار ضيق لسباقات شخصية، تُدار بالولاءات والوعود الهامسة، لا بالمعايير والمشروعات الواضحة. إنه اختزال العمل المؤسسي إلى لعبة علاقات، وتغليب الصداقة على الصلاحية، والشكل على الجوهر. لسنا أمام ظاهرة عابرة أو قطاع محدد؛ بل أمام نمط متكرر في مجالات متعددة، حيث تتكرر دورة الفشل مهما تبدلت الأسماء. في كل مرة يُفتح فيها باب الترشح، تُستدعى القوائم الجاهزة، وتشتعل الاتصالات التي تحدد التحالفات قبل أن تتحدد الرؤى، الفائز هنا ليس بالضرورة من يحمل أفضل الأفكار أو أعمق الخبرات، بل من يمتلك شبكة أوسع من العلاقات الشخصية، أو القدرة على مجاملة الآخرين. قديماً، كانت الديمقراطية في ثقافتنا موضوعًا جدليًا بين مؤيد ومعارض، أما اليوم، فنحن أمام فرصة نادرة لتطوير آليات المشاركة بما يتناسب مع أهدافنا الوطنية. لكن أي فرصة، بلا إصلاح جذري في العقليات، ستتحول إلى نسخة مكررة من الماضي، إذ لا معنى للانتخابات إن بقيت حبيسة الدوائر الضيقة، ولا فائدة من تغيير الوجوه إن لم يتغير النهج. إن ما يحدث في بعض المؤسسات التقليدية مثال حي على ذلك؛ فهي في كثير من الأحيان تُدار بذهنية "شيخ القبيلة" الذي يوزع الامتيازات والشرهات على الموالين والمقربين، لا بذهنية القائد الذي يبني كيانًا مؤسسيًا متماسكًا، هذه الممارسات قطعا لا تخدم رؤية التطور والريادة، ولا تتسق مع طموح أي جهة تريد أن ترتقي بأدواتها القيادية والإدارية، فالعمل المؤسسي لا يُبنى على العاطفة أو الصداقات كما يحاول المستفيدون من هذا النمط تلطيفه وجعله مستداما، بل على الكفاءة، والمعايير، والمساءلة. الانتخابات الناجحة لا تُقاس بعدد المقاعد التي تتبدل، بل بجودة القرارات التي تُصنع بعد فوز أصحابها. وللوصول إلى هذه المرحلة، لا بد من تفكيك شبكات الشللية في أي منظمة خاصة تلك المنوط بها رفع الوعي العام، وفتح الباب أمام معايير شفافة تمنح الفرصة لمن يملك القدرة، لا لمن يملك الهاتف الأقوى شبكة، حينها فقط يمكن أن يتحول الاقتراع من إجراء روتيني إلى أداة حقيقية للتغيير. وفي النهاية، يبقى السؤال الذي يجب أن يطرحه كل قائد على نفسه: ما الإرث الذي أريد أن أتركه؟ هل هو قائمة بأسماء وصلت بفضل تحالفات شخصية، أم مؤسسة قوية تملك القدرة على الاستمرار والتطور بعد غيابي؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تحدد فقط مسارك الشخصي، بل تحدد ملامح المستقبل الذي نصنعه جميعًا.