يبدو لي أن البشر يتقبلون الأشكال الجديدة حتى يصلوا إلى مرحلة التشبّع منها ثم يتجاوزونها إلى أشكال ومنتجات جديدة، لذلك غالبًا ما يكون التعامل مع الأنماط التاريخية كأنماط مكتملة يجعل من تقبّلها يواجه مقاومة داخلية، كونها مشاهدة من قبل ولا تقدم أي جديد؛ والبشر يبحثون عن الجديد دون أن يرفضوا القديم رفضًا كاملًا أو أنهم يعملون على التخلّص منه.. نتحدث دائمًا عن "الملل" الذي يحدثه التكرار في نفوسنا، وغالبا ما نربط هذه الظاهرة بالنقل من التراث كون هذا النقل يصنع تكرارا واضحا للعيان لا لبس فيه، لذلك من ينتقد النقل من التراث هو ينتقد "الملل" الذي يصنعه هذا النقل وليس "التأثر بالتراث" والتعلّم منه. تكمن الحجّة هنا أن الأغلبية ينظرون إلى التراث كونه يقدم حلولا مكتملة على شكل عناصر فراغية وبصرية جاهزة للتوظيف والاستخدام، وأنا هنا أتحدث عن العمارة، هذه النظرة لا تدع هناك مجالا للابتكار والإبداع بل هي نظرة تقود دائما إلى نفس الحلول ونفس الأشكال البصرية، مما يعني أنها تدور في حلقة مفرغة تعود فيها لنفس البداية كل مرة وتنتهي نهاية مغلقة بأسلوب تكراري ممل. إذا ما سلمنا بهذا القول الذي يناهض النقل من التراث لا التعلّم منه سوف نجد أن إثبات ما ذهب إليه هذا التوجه غير مجرّب، فهل الجيل الحالي ينظر للنقل من التراث على أنه ينتج منتجات مملّة لا تنتمي للعصر؟ وهل هناك حدود واضحة لمسألة التعلّم من التراث؟ في الحقيقة حاولت أن أقوم بتجربة بسيطة مع أفراد العائلة دون أن أخبرهم بالفكرة التي تدور في ذهني من خلال اقتناء منتج حرفي وهو صندوق مغطى بالصدف، وهي حرفة معروفة في سوريا وفي مصر، في القاهرة على وجه التحديد، فقد جلبت معي نوعين من الصناديق أحدهما كان يتبع الحرفة التقليدية التاريخية ومصنوع بإتقان، والآخر متحرر من التاريخ ويوظف أشكالا نباتية متحررة من النظام الهندسي الذي تتبعه الحرفة عادة، لكن الصندوقين يعتبران ضمن الحرفة المتعارف عليها وصنعا من نفس المواد وبنفس أيدي الحرفيين. النتيجة أن جميع أفراد الأسرة طلبوا الصندوق المتحرر من الأشكال المتعارف عليها ولم يختر أي منهم الصندوق ذو النمط التاريخي. هذه التجربة البسيطة جعلتني أفكر أكثر في المزاج البشري والتصورات التي تنتج عن هذا المزاج، فحتى عندما عرضت عليهم صندوقا يتبع النمط التاريخي لكنه مطوّر ومتحرر بعض الشيء عن التكوينات التاريخية لم يتحمس له إلا البعض وبشكل متحفظ. يبدو لي أن البشر يتقبلون الأشكال الجديدة حتى يصلوا إلى مرحلة التشبّع منها ثم يتجاوزونها إلى أشكال ومنتجات جديدة، لذلك غالبا ما يكون التعامل مع الأنماط التاريخية كأنماط مكتملة يجعل من تقبلها يواجه مقاومة داخلية، كونها مشاهدة من قبل ولا تقدم أي جديد والبشر يبحثون عن الجديد دون أن يرفضوا القديم رفضا كاملا أو أنهم يعملون على التخلّص منه، فالبعض قال لي نحن لدينا صناديق ذات أنماط تاريخية ولم تعد تشدّنا لكننا لا نزال نحتفظ بها. ملاحظة أخرى هي أن هناك علاقة بين العمر وبين "الموقف من التاريخ" فكبار السن (40-60) موقفهم عاطفي لكنهم يشعرون بتشبع واضح من كل الأشكال التي تربطهم بالماضي ولم يكن لديهم حماس كافٍ لاقتناء صندوق الصدف "الكلاسيكي" لكن ما دون الأربعين كانت توجهاتهم متباينة، فالبعض الذي لم يقتنِ مثل هذه الصناديق لم يكن يمانع في اقتناء أي من الصندوقين لكنه كان يميل إلى المتحرر من الانتظام الهندسي أكثر. دعونا نُفكّر أكثر في علاقة هذا الموقف بنظرتنا للعالم اليوم، فهل نحن ننتمي لهذا العالم وما يفكّر فيه أو أننا ننتمي للماضي ودوائره المغلقة؟ هذا السؤال تُفكّر فيه طالبة الدكتوراة "ماريا القحطاني" في قسم العمارة بجامعة الامام عبدالرحمن بن فيصل، فهي تعتقد أن جيل الشباب والشابات في المملكة الذي ولد قبيل عام 2000 لا يرى في الماضي مصدرا أساسيا لهويته الحالية أو المستقبلية، ليس جميعهم بالطبع، لكن تفترض أن المخزون البصري والثقافي الذي تغذى عليه هذا الجيل لم يخض تجربة التاريخ، وتعتقد أن انتماءاته مرتبطة بما فرضته "العولمة" وطغيان الشاشة والصورة وتبدّل الفضاءات العامة والخاصة وأنماط الحياة الاجتماعية الجديدة التي لا يمكن أن تعود إلى الوراء. تظل هذه الفرضية مجرد فرضية حتى يتم اختبارها علميا، وأرى أنها تستحق التفكير والتجريب وترقي كي تكون موضوعا أساسيا للتفكير في "أركان الانتماء" التي يجب أن نحددها بوضوح في المستقبل القريب. ومع ذلك كان هناك بعض الملاحظات من زميلاتها حول الفكرة، فبعضهم يرى أن هناك حنينا للماضي ملاحظا وهو حنين يتصاعد بشدة، لكن "ماريا" ترى أنه مجرد "حنين سطحي" يخلو من التجربة الحقيقية، أي أنه مجرد "نزوة" نحو الماضي لا تصل إلى درجة المفاضلة التي تجعلنا نعود للوراء. في اعتقادي أن مثل هذا الطرح يفتح الباب واسعا نحو مسألة "الهوية" فالكل يتحدث عنها، ومع ذلك لا أحد يحددها بوضوح. خلال الأيام القليلة الفائتة كنت في الشارقة في ضيافة معهد الشارقة للتراث الذي يعمل على إعداد "موسوعة معجمية"، فقد اختلفنا هل هو "معجم" أم "موسوعة" لمصطلحات التراث العمراني في العالم العربي. المشروع ضخم ومهم، ويهدف إلى بناء "فرشة معرفية" لنقد التراث، هذا ما أعتقده على الأقل، فكيف ننتقد شيئا لا نعرفه بشكل واضح وكامل، ونحن لم نتعرّف على تراثنا بشكل كامل حتى الآن. دار النقاش بين الزملاء من أغلب الدول العربية على "التقصير" الواضح الذي لازم توثيق ودراسة التراث المادي والثقافي (غير المادي)، وتعجبت كيف أننا ولعقود نتشبث بالتراث ونعطيه الحق لتشكيل هويتنا المعاصرة ونحن لا نزال نجهل الكثير عنه.