حين نتحدث عن الإذاعة كثيراً ما نراها من زاوية المستمع.. موجة تُشغل داخل سيارة أو صوت يرافقنا في زحام الطريق. هذا ما تعودنا عليه في ازدحام شوارع مدينة الرياض وغيرها من المدن الكبرى التي يكثر فيها قضاء تلك الساعات في الطريق ما جعل الإذاعة إجبارا يفرضه علينا هذا الازدحام ولكن حين يكون هذا المستمع واعٍ لنفسه ومدرك لما يهدره من الوقت فسيكون اختياره للإذاعة اختيار يُثري عقله ويُعيده إلى زمن الكلمة المسموعة. منذ عقود كانت الإذاعة هي نافذتنا الوحيدة إلى العالم، ننتظر من خلالها نشرات الأخبار والبرامج الثقافية ونتسابق للاستماع إلى المسلسلات الإذاعية وغيرها من الأغاني الكلاسيكية.. ثم جاء زمن الشاشات والهواتف الذكيه حتى تخيلنا أن الإذاعة انتهت أو ستنتهي لكنها حقيقة عادة بهدوء مؤثر لتصبح أكثر حضوراً في حياة الناس خاصة مع هذا الازدحام الذي يلتهم ساعتنا في الطريق. اليوم الإذاعة مرتبطة ارتباط تام بالاستدامة سواء استدامة المعرفة، أو الوقت أو حتى استدامة الجهد البشري. فلقد شاهدت ذلك من خلال زيارتي لهيئة الإذاعة والتلفزيون لقد لمست حجم العمل الجبار الذي تقوم به هذا الطاقة البشرية خلف المكرفونات، جهد متواصل وحراك يومي لإحياء هذا الكيان العريق وتوجيهه ليواكب كل جديد، وفي حديثي مع أحد المسؤولين أدركت أن الإذاعة لم تعد مجرد وسيلة كلاسيكية، إنما أصبحت قادرة على مخاطبات جميع طبقات المجتمع والتماهي مع عقليات الفئات المتنوعة من شباب متعطش للمعرفة إلى المستمع الذي يبحث عن رفيق الزحام. الإذاعه تعود لأنها واكبت تحولاتنا وتعلمت بطريقة أو بأخرى كيف تسلل إلى حياتنا من جديد وتحفظ لنا هويتنا الصوتية والذاكرة الجماعية وسط الصور السريعة لأنني أرى أنها وسيلة متجددة وقادرة على إعادة علاقتنا بها. الإذاعة اليوم ليست إجباراً ولا اختياراً، إنما هي فعل وعي يعيد للكلمة حضورها وسط ثقافة الاستهلاك، وأنا أرى أنها من أقوى الجسور التي تربط بين أجيال سمعت أصواتها أول مرة عبر المذياع، وأجيال جديدة تجد فيها الآن صوتاً متجدداً يرافقها الطرقات، إنها عودة بوعي أن ما يبقى ويدوم ليس هو الأحدث دوماً، إنما هو ما يُتقن كيف يتحول ويستمر، والإذاعة فعلت ذلك بامتياز. إذاً لماذا تعود الإذاعة اليوم..؟ لأنها إعادة صياغة خطابها لتصبح أكثر قرباً من الناس وأكثر قدرة على مخاطبة وعيهم ولتغيير وعي المستمع أيضاً. فلم يعد يبحث عن الترفيه العابر، إنما عن ذلك المحتوى الذي ينير عقله ويمنحه لحظة صادقة مع كل ما يمر عليه خلال يومه.