يشهد العالم اليوم ثورة تقنية غير مسبوقة يقودها الذكاء الاصطناعي، الذي يثير جدلاً واسعًا حول تأثيره على مستقبل الوظائف، وتتردد في المجالس وعلى منصات التواصل الاجتماعي أحاديث متكررة عن قلق الموظفين من فقدان وظائفهم، ويتساءلون: هل ستحل الروبوتات محلنا؟ الذكاء الاصطناعي هو فرع من علوم الحاسوب يهدف إلى إنشاء أنظمة قادرة على أداء مهام تجاري الذكاء البشري، مثل الروبوتات، وفي وطننا الغالي، تمثل "رؤية السعودية 2030" نقطة تحول استراتيجية نحو جعل المملكة مركزًا إقليميًا للذكاء الاصطناعي، حيث يجري توظيف هذه التقنية في مختلف القطاعات بهدف رفع الكفاءة وتحسين الإنتاجية. وهنا يبرز السؤال: هل سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى فقدان الوظائف، أم إلى خلق فرص جديدة؟ وكيف يمكن الاستعداد لهذا التحول؟ في الواقع، الذكاء الاصطناعي لا يُلغي الوظائف بقدر ما يُعيد تعريفها. فالتقنيات الذكية مثل التعلم الآلي، وتحليل البيانات، والروبوتات، بدأت بالفعل في تولي المهام الروتينية المملة والمستهلكة للوقت؛ سواء في المصانع حيث تحل الروبوتات محل العمال في خطوط الإنتاج، أو في مراكز خدمة العملاء عبر الدردشة الآلية (Chatbots)، أو حتى في بعض المهام الإدارية البسيطة مثل إدخال البيانات وجدولة المواعيد، وكذلك في تحليل البيانات المالية وإعداد التقارير. لكن في المقابل، تظهر وظائف جديدة لم تكن موجودة من قبل، مثل: متخصصي الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، وخبراء الأمن السيبراني، ومصممي الأنظمة التفاعلية والروبوتات. كما أن كثيرًا من الوظائف ستتكيف لتصبح أكثر اعتمادًا على التقنية. فعلى سبيل المثال: الأطباء سيعتمدون أكثر على الذكاء الاصطناعي لتشخيص الأمراض بدقة أعلى، والمعلمون سيستفيدون من المنصات التعليمية الذكية لتخصيص التعليم حسب احتياجات الطلاب، والمحاسبون سيستخدمون البرامج الذكية لتحليل البيانات المالية بسرعة ودقة، فيما سيساعد الذكاء الاصطناعي القانونيين في مراجعة العقود والوثائق القانونية بسرعة فائقة. ومع ذلك، ستبقى بعض المهن بعيدة عن تأثير الذكاء الاصطناعي، خاصة تلك التي تتطلب لمسة إنسانية أو إبداعًا فنيًا، مثل: الكتابة الإبداعية، والعلاج النفسي، والقضاء، فضلًا عن الحرف اليدوية والتراثية وأعمال الصيانة الدقيقة. وهذه الظاهرة لا تقتصر على السعودية فقط، بل تشمل مختلف دول العالم. إن تحوّل الموظفين نحو اكتساب المهارات الرقمية بات أمرًا حتميًا، مع تزايد الطلب على من يمتلكون القدرة على التعامل مع التقنية. فالذكاء الاصطناعي يُعد أداة لتعزيز الإنتاجية وحفظ الخبرة المؤسسية، وليس لإستبدال الإنسان. غير أن الانتقال من نمط العمل التقليدي إلى بيئة عمل مدعومة بالذكاء الاصطناعي يتطلب تغييرًا في الثقافة التنظيمية، وهو ما يحتاج إلى وقت وجهد متواصلين. الخوف من المجهول أمر طبيعي في البشر، لكن التاريخ يعلّمنا أن كل ثورة تقنية -من المحرك البخاري إلى طفرة الإنترنت- خلقت في النهاية فرصًا وظيفية أكثر مما ألغت. صحيح أن بعض الوظائف التقليدية ستختفي، لكن ستنشأ وظائف أخرى أكثر تطورًا وأعلى قيمة. والتحدي الحقيقي أمام الأفراد هو سرعة التكيف واكتساب المهارات الجديدة بدلًا من القلق من فقدان الوظائف. وعليه، يجب أن ينصبّ التركيز على كيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تعزيز الاقتصاد وخلق فرص عمل مبتكرة تتماشى مع طموحات الرؤية الطموحة، فالذكاء الاصطناعي لن يكون نهاية الوظائف، بل بداية عهد جديد من العمل يقوم على التكامل بين الإنسان والآلة. ومن يستثمر في نفسه اليوم سيكون جزءًا من مستقبل أكثر ذكاءً. والمملكة، بما تملكه من ثروات بشرية ومالية ورؤية طموحة، لديها كل المقومات لتحويل تحديات الذكاء الاصطناعي إلى فرصة ذهبية.