لكل إنسان شخصيته المتميزة ونظرته الخاصة إلى الحياة، ولكن كثيرًا ما نرى من يصرّ على آرائه ويحب أن يكون من حوله نسخةً مطابقةً له في التفكير والسلوك، وكأنّ الحقيقة محصورة في رأيه وحده، والحقيقة أن العقول تتفاوت، والنظر إلى الأمور يختلف باختلاف التربية والنشأة والتجارب والظروف. وقد قيل قديمًا: "أهل العقول في راحة"، وقيل "كلاً بعقله راضي إلا برزقه لا"، لكن من الخطأ أن نعتقد أنّ رأينا هو الأرجح دائمًا، وحكمنا هو الأصوب في كل موقف، فالعقل مهما بلغ، يظل عرضةً للخطأ والهوى والنقص، وقد أشار سقراط إلى هذه الحقيقة بقوله: "العقل هو أساس الفضيلة، والجهل هو أصل الرذيلة". ومن المؤكد أنّ العقول الراقية لا تنشغل بالتوافه ولا تغرق في صغائر الأمور، بل ترتقي في نقاشاتها، وتسمو بفكرها، وتبحث عن كل ما هو مفيد للفرد والمجتمع والوطن، وهنا يتجلى قول أفلاطون: "العقول العظيمة تناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تناقش الأحداث، والعقول الصغيرة تناقش الأشخاص". وقد لخّصت الحكمة ذلك بقولها: "إذا ارتقت العقول بأفكارها، طابت الأنفس بحديثها". وهناك توجيه نبوي عظيم يرسخ هذا المبدأ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (رواه البخاري ومسلم). أما الشعر فقد جاء معبّرًا عن نفس المعنى على لسان الإمام الشافعي -رحمه الله-: إذا نطق السفيه فلا تجبهُ * فخيرٌ من إجابته السكوتُ فإن كلّمتَه فرّجتَ عنهُ * وإن خليتَه كمداً يموتُ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "قيمة كل امرئ ما يحسن"، وقيل : "الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله". وأعتقد أنّ الصواب ليس واحدًا بالضرورة، بل تتعدد السبل ويُسهم كل عقل في إثراء التجربة الإنسانية. ولعلّي أقول إنّ ما أحوجنا اليوم إلى أن نرتقي بعقولنا، فنترك الجدال العقيم، وننشغل بما ينفعنا وينفع أوطاننا. وفي تقديري، فإنّ أجمل ما يمكن أن نختم به هو الدعوة إلى السموّ بأفكارنا، وإعلاء قيمة الحوار الراقي، وجعل عقولنا منبع بناء لا سبب هدم، لنصون أنفسنا، ونرتقي بمجتمعنا، ونخدم وطننا.