العالم اليوم يدخل سباقًا جديدًا في قطاع الطاقة، لم يعد فيه النفط وحده سيد الموقف، بل تشاركه الشمس والرياح والبيانات في رسم ملامح الغد، فبعد أن كان النفط لعقود طويلة المحرك الأول للطاقة ومصدر استقرار الأسواق، أصبح العالم بحاجة إلى مزيج جديد يضمن تلبية الطلب المتزايد ويواجه التحديات المناخية، هذا المزيج يقوم على ثلاثة أضلاع أساسية: محورية النفط، واستدامة الطاقة النظيفة، وذكاء البيانات. فالطاقة الشمسية والرياح لم تعد بدائل مكلفة أو تجارب محدودة، بل تحولت إلى ركيزة يُعتمد عليها في إنتاج الكهرباء، الألواح الشمسية اليوم أكثر كفاءة من أي وقت مضى، وتوربينات الرياح أصبحت أكثر قدرة وكفاءة، حيث يمكن للتوربين الواحد أن يولد طاقة تكفي عشرات الآلاف من المنازل. ومع انخفاض تكاليف هذه التقنيات بأكثر من 80 ٪ خلال العقد الأخير، صارت منافسًا حقيقيًا للوقود الأحفوري، بينما يبرز الهيدروجين الأخضر كوقود المستقبل القادر على تخزين الطاقة ونقلها وتشغيل الصناعات الثقيلة ووسائل النقل الكبرى، وهو ما قد يغطي بحسب تقديرات أوروبية ما يصل إلى 20 ٪ من استهلاك الطاقة العالمي بحلول 2050. ويمكن النظر إلى الهيدروجين ك"جسر تقني" يربط الكهرباء النظيفة بالقطاعات التي لا يمكن تشغيلها مباشرة بالكهرباء. وعلى التوازي، يشهد العالم مع اقتراب نهاية الربع الأول من هذا القرن ثورة رقمية هائلة تعيد صياغة إدارة الطاقة، فالشبكات الكهربائية لم تعد مجرد خطوط توصل الكهرباء من المحطة إلى المنزل، بل أصبحت أشبه ب"جهاز عصبي" يلتقط الإشارات من ملايين العدادات وأجهزة الاستشعار، ويرسلها إلى أنظمة ذكية تدير المشهد لحظة بلحظة. هذه البيانات الضخمة، حين يحللها الذكاء الاصطناعي، تسمح بالتنبؤ بالطلب وتوزيع الكهرباء بكفاءة عالية، ومع وجود بطاريات عملاقة يمكن تشبيهها ب"خزانات مياه"، أصبح من الممكن تخزين الكهرباء الفائضة عند ذروة الإنتاج وضخها مجددًا عند الحاجة، ما يجعل الشبكات أكثر استقرارًا وموثوقية، وتشير وكالة الطاقة الدولية إلى أن قدرة العالم على تخزين الكهرباء قد تصل إلى 970 جيجاواط بحلول 2030، مقارنة ب28 جيجاواط فقط في 2022، وهو تحول هائل يعكس حجم القفزة التقنية، هذه الثورة الرقمية لم تعد خيارًا إضافيًا، بل أصبحت شرطًا رئيسًا لضمان استقرار منظومة الطاقة في عالم يعتمد أكثر فأكثر على مصادر متجددة متغيرة بطبيعتها. وعند النظر إلى التجارب الدولية، نجد أن الولاياتالمتحدة تملك قوة نفطية كبيرة وريادة في الرقمنة لكنها لم تصل بعد إلى التزام كامل بالطاقة النظيفة، بينما تقود الصين العالم في الطاقة الشمسية والرياح والبطاريات لكنها تعتمد بشكل كبير على استيراد النفط. وفي المقابل، تقدم المملكة العربية السعودية نموذجًا متوازنًا يجمع بين أهمية النفط كمورد رئيس، واستثمارات نوعية في الطاقة المتجددة مثل: مشروع نيوم للهيدروجين الأخضر، إلى جانب ريادة متقدمة في الذكاء الاصطناعي والبيانات جعلتها ضمن الدول الثلاث الأولى عالميًا. إن هذا النهج المتوازن يمنح المملكة موقعًا متقدمًا لقيادة التحول نحو اقتصاد يقوم على المعرفة والتقنية بقدر ما يقوم على الموارد الطبيعية، ويعزز دورها كمركز عالمي للطاقة، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي الفريد الذي يتوسط قارات العالم ويربط طرق الطاقة والتجارة بين الشرق والغرب، فلا يقتصر دورها على تأمين استقرار الأسواق، بل يمتد إلى تقديم حلول مبتكرة لتحديات المناخ والتنمية المستدامة. ومع استمرار نجاحات هذه الرؤية، وانطلاقًا من مستهدفات رؤية السعودية 2030، تفتح المملكة أمام الأجيال القادمة آفاقًا رحبة لعالم أكثر نقاءً بيئيًا، وأقوى اقتصاديًا، وأكثر إشراقًا حضاريًا، لتظل طاقة المستقبل المتوازنة ركيزة أساسية للتنمية والازدهار الوطني والإنساني. *عضو مجلس الشورى