أستطيع أن أصف ندوة مكتبة الإسكندرية أنها ندوة فلسفية فكرية، أكثر من كونها ندوة تستعرض أمثلة لتاريخ تطور المآذن في أمكنة متعددة وأزمنة متباينة.. الحديث الآخر الذي صاحب السرد المعرفي الثري كان حديثًا يتحدى حالة «التعود» ويفكك ظاهرة العادة التي تصنع حالة ذهنية معروفة سلفًا ومتكررة.. خلال الأيام القليلة الفائتة كنّا في مكتبة الإسكندرية لتنظيم الندوة الثالثة لعمارة المساجد التي تنظمها جائزة عبداللطيف الفوزان مع مركز دراسات الحضارة الإسلامية. مكتبة الإسكندرية كانت ولا تزال شريكا مهما ومؤثرا على مستوى الدراسات الخاصة بتاريخ المسجد وجذور عناصره، وكان موضوع الندوة حول تطور المآذن التي اكتشف الحضور أنها عنصر يتطور باستمرار ويحمل بذورا تطورية مذهلة جعلت هذا العنصر لا يستقر على شكل، بل ويتخذ أنماطا مختلفة في كل بلد وفي كل عصر، لكن المدهش كذلك أنه لا توجد دراسات معروفة عن شجرة الأنساب التي تنتمي لها أشكال المنائر ولا من أين أتت تلك الأشكال. كان موضوع الندوة موجّها نحو نقد الواقع المعرفي للتراث فهذه المعرفة تنحو للعاطفة أكثر من الرصانة والبحث الجاد مع بعض الاستثناءات. لكن ما لفت نظري في حوار بعض الحضور هو تركيزهم على تشخيص "هوية المسجد" فهم ينتقدون "التجريد" والخروج من "صندوق" النمطية الشكلية للمسجد ويرون أن هذا الخروج أبعد عمارة المسجد عن روحها وهويتها. لقد قادنا هذا النقد المباشر للخطاب المعماري المسجدي المعاصر إلى فتح حوار واسع حول "التعوّد" مقابل "الإبداع" فقد رأى البعض أن المشكلة تكمن في التعوّد الذي يجعل كثيرا من الناس لا يستطيعون أن يروا خارج ما اعتادوا عليه، وكانت حجة هؤلاء أن المعماريين الغربيين عادة ما يستطيعون تفسير ثقافتنا وعمارتنا بأسلوب مغاير لما اعتدنا عليه، لذلك غالبا ما تخلق أفكارهم صناديق جديدة لكنها مفتوحة على التفسير المستقبلي بينما أغلب المعماريين المنتمين لنفس الثقافة لا يستطيعون أن يروا خارج الصورة النمطية المهيمنة على أذهانهم، لذلك هم يقعون دائما في شرك النهايات المغلقة. هذا يعني أن العادة تخنق الإبداع والابتكار وتدفع إلى التكرار، فالأصل في "العادة" هو تكرار الشيء والتماهي معه. دون شك أن هذا الرأي يملك حجّة قوية كونه رأيا يغوص في الطبيعة البشرية التي غالبا ما تنتهج الطرق الآمنة المجربة والسهلة، وفلسفة "التعوّد" تقوم على إعادة التجربة وتبنيها والإيمان بها ثم تكرارها. وبالتأكيد هذه الخطوات التي يخطوها الإنسان نحو التعوّد تقوده إلى السكون وتغييب العقل الابتكاري كونه عقلا يدفع إلى تحدي المُتعوّد عليه وهو الأمر الذي يواجه صعوبات عميقة في ثقافتنا المعاصرة. إذا كانت حجة من يعتقد بتفوق المصمم الغربي هي أن هذا المصمم يستطيع أن يرى ما لم يعتد عليه وبالتالي غالبا ما تكون تفسيراته لما يراه ابتكارية تتجاوز النهايات المغلقة التي يقع فيها المُتعوّدون. لكن يجب أن نعي أن تيّار المُتعوّدين يملك قدرة على الحضور والمقاومة كونه يوظّف أدوات عاطفية تخاطب قلوب الناس، وهذا ما حاولت أن تمارسه إحدى الأكاديميات في الندوة، فقد تحدّثت عن الهوية وعن "شخصية المسجد" بمنهج عاطفي نقلت خلاله تصورها الذي اعتادت عليه وتؤمن به، وتعاطف معها بعض الجمهور، رغم أنه جمهور نخبوي، لكن لأن العادة غالبا ما تقترن بالعاطفة لذلك فإنها تعمل كموصّل سريع يهيّج المشاعر ويشعل مأزق الهوية. عادة لا يرى من هو خارج صندوق هذه العاطفة ولا يؤمن بها، لذلك هو يمارس كل مهاراته الإبداعية ويعبّر عنها دون حدود أو ضوابط داخلية، وهذا لا يعني أنه يتجاوز جوهر الأشياء وبنيتها التي تجعلها معروفة بشكل أو بآخر. ربما يقتضي هذا بعض التفسير لمسألة تجاوز حالة التعوّد على خلق حالة جديدة قائمة على ابتكار منهج تفكير يكسر حالة التعوّد، لا يشجع على التكرار ولكن يحث على تعوّد يقاوم الأفكار السائدة ويتجاوزها. يبدو أن الركون إلى خلق أنماط معتادة من التفكير تعمل على محاصرة القدرة على التجديد، وهذا ناتج، كما ذكرنا، عن قدرة العادة على حجب مجال الرؤية التي تتعارض مع العادة، مثل الصور النمطية التي عادة ما تكوّنها بعض الشعوب عن بعضها البعض، فهذه الصور ليست واقعية، لكن يصعب تغييرها، لذلك لم تكن مهمتنا في الندوة تغيير ما تعودت عليه العقول التي شاركت في تلك الندوة بل كان الهدف دفعها إلى التساؤل والتشكيك فيما تعوّدت عليه وتعتبره هو التوجّه الصحيح. مجرد محاولة تغيير أنماط التفكير سوف يواجه صداما حادا ومقاومة رافضة ستقود في نهاية الأمر إلى فشل المحاولة، لكن خلق التساؤل الداخلي هو بذرة الأسئلة التي يمكن أن تنمو وتساهم في تجاوز العادة. لن أقول إنه أسلوب يقترب من التفكير "الديكارتي" لكن خلق المقدرة على تقبل التجديد هو مهمة "تشكيكية" بالدرجة الأولى. أستطيع أن أصف ندوة مكتبة الإسكندرية أنها ندوة فلسفية فكرية، أكثر من كونها ندوة تستعرض أمثلة لتاريخ تطور المآذن في أمكنة متعددة وأزمنة متباينة. الحديث الآخر، الذي صاحب السرد المعرفي الثري كان حديثا يتحدى حالة "التعود" ويفكك ظاهرة العادة التي تصنع حالة ذهنية معروفة سلفًا ومتكررة. مثل هذا الحديث كان لا بد أن يخلق جدلا لن ينتهي بانتهاء الندوة، فقد بدأ منها وقد يأخذ طرقا متعددة، لكنه دون شك يتحدى "تابوهات" الهوية التي تخلقها الأشياء المُعتادة" ويعتقد البعض أنها هوية حقيقية بينما هي في الواقع قد تكون مجرد محطة من محطات الهوية تجاوزها القطار منذ فترة طويلة.