في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي تعيشها المملكة العربية السعودية، تلعب المرأة دوراً متزايد الأهمية في سوق العمل. غير أن هذا التقدم المهني قد يكون مصحوباً بتحديات نفسية وصحية لا تقل أهمية. ففي دراسة حديثة نُشرت في مجلة BMC Women's Health للدكتورة ديمة العتيق بالمشاركة مع باحثين آخرين؛ سلطت الضوء على واقع الصحة النفسية للنساء العاملات في السعودية، كاشفة عن نسب مقلقة من انتشار الاكتئاب والقلق بين هذه الفئة، ما يثير تساؤلات ملحة حول دور بيئة العمل، والدعم النفسي، والتوازن بين الحياة المهنية والشخصية. هدفت الدراسة إلى تحديد مدى انتشار اضطرابي القلق والاكتئاب بين 580 من النساء العاملات في العاصمة الرياض، وتحليل العوامل النفسية والاجتماعية والطبية المرتبطة بهما. وكشفت النتائج أن 50.2 % من النساء العاملات يعانين من درجات متفاوتة من الاكتئاب، تتراوح بين الخفيف والمتوسط، في حين أظهرت 49 % منهن علامات القلق بدرجات مماثلة. هذه النسب تشير إلى أن نصف النساء العاملات في الرياض تقريباً يعانين من أعراض نفسية قد تؤثر على أدائهن في العمل وجودة حياتهن الشخصية. من النتائج المقلقة أيضًا أن 20.3 % من العاملات يعانين من اكتئاب معتدل إلى شديد، بينما يعاني 15.5 % من القلق الشديد. ووجد الباحثون أن العوامل الاجتماعية والديموغرافية والمهنية لم ترتبط بشكل كبير بمستويات الاكتئاب والقلق، لكن بعض العوامل السلوكية والصحية كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتفاقم هذه الاضطرابات. الأمر اللافت في الدراسة هو أن النساء اللاتي لديهن تاريخ سابق من تعاطي الكحول أو عدد أقل من حالات الحمل كن أكثر عرضة للاكتئاب، في حين ارتبط التدخين بزيادة مستويات القلق، وهو ما يسلط الضوء على تفاعل العوامل السلوكية والبيولوجية مع الحالة النفسية. قدمت الدراسة سلسلة من التوصيات العملية التي يمكن للجهات المعنية تبنيها لتحسين صحة النساء العاملات؛ فقد دعت إلى تطبيق سياسات مرنة في ساعات العمل، تشمل خيارات العمل عن بُعد وتعديل أوقات الدوام، خاصة للأمهات العاملات. كما أكدت على أهمية تمديد مدة إجازة الأمومة لتصبح أكثر سخاءً، بما يتوافق مع الأبحاث الدولية التي أظهرت أن الإجازات الأطول ترتبط بتحسن الصحة النفسية للأمهات. أوصت الدراسة كذلك بزيادة الوعي في أماكن العمل حول الصحة النفسية، من خلال حملات توعية دورية وورش عمل تثقيفية. وشدد الباحثون على أهمية توفير برامج رفاهية شاملة تشمل جلسات يوغا وتأمل، وإنشاء مراكز رعاية أطفال داخل أماكن العمل لمساعدة الموظفات على التوازن بين العمل والمسؤوليات الأسرية. أشارت الدراسة إلى ضرورة توفير خدمات نفسية متخصصة في أماكن العمل، إما عبر شراكات مع مراكز الصحة النفسية أو من خلال توظيف اختصاصيين نفسيين. وتشمل هذه الخدمات جلسات استشارية سرية وبرامج دعم نفسي مبكر. لتفعيل هذه التوصيات، يجب على الجهات الحكومية والخاصة اتخاذ خطوات ملموسة في مراجعة سياسات إجازة الأمومة؛ حيث يجب على وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية مراجعة مدة إجازة الأمومة الحالية وزيادتها لتكون أكثر توافقًا مع الاحتياجات النفسية للأمهات، مع مراعاة تقديم خيارات مرنة بعد انتهاء الإجازة. ويمكن للشركات الكبرى والمؤسسات الحكومية إنشاء شراكات مع وزارة الصحة ومراكز الصحة النفسية لتوفير خدمات استشارية مجانية أو مدعومة للعاملات. ويمكن لوزارة الإعلام بالتعاون مع الجهات الصحية إطلاق حملات توعية تهدف إلى كسر الصورة النمطية حول الصحة النفسية وتشجيع النساء على طلب المساعدة عند الحاجة. تكشف هذه الدراسة عن واقع قد يكون غير مرئي للكثيرين: المرأة العاملة، رغم مظهرها القوي والناجح، قد تخوض معارك نفسية صامتة. إنها دعوة لمزيد من الأبحاث، والسياسات المستنيرة، والدعم المجتمعي لفئة تمثل قلب التغيير الاجتماعي والاقتصادي في المملكة. ودعم الصحة النفسية للمرأة العاملة ليس مجرد مسؤولية أخلاقية، بل استثمار في رأس المال البشري الذي يسهم في تعزيز الإنتاجية ودفع عجلة التنمية في المملكة. فعندما تشعر المرأة العاملة بأن صحتها النفسية مُعترف بها ومدعومة، فإنها ستعيد إنتاجية أكبر وستكون أكثر التزامًا بعملها، مما يعود بالنفع على الفرد والمؤسسة والمجتمع ككل.