كل كشف معرفي هو كشف عن جزء من حقيقة الخلق الكبرى، التي هي موجودة ويدعونا الله إلى فهمها وكشفها، وكل تفاعل واحتكاك بشري مع المعرفة هو جزء من الفطرة البشرية وطريق إلى فهم الطبيعة الإنسانية المُشبّعة بالعقل الفضولي الساعي لفهم أسرار الحقيقة الكبرى... يعتقد كثير من الباحثين أن المنهج العلمي يكمن في آلية جمع المعلومات وتحليلها، بينما الأساس في أي بحث علمي هو فلسفته وتوجهه الفكري، وبما أنني أعمل منذ فترة طويلة على النظرية العمرانية في القرآن الكريم، كون العمران هو الفضاء المكاني والحسي الذي يمارس فيه البشر حياتهم ونشاطاتهم اليومية ولا يوجد أي حضارة بشرية غير مرتبطة به، لذلك فقد كنت أبحث عن الرابط المنهجي الذي يجعل من أي نظرية مرتبطة بالواقع، ويفترض أن يكون هذا الرابط من القرآن، وصادف أنني سمعت تفسيرا للشيخ الشعراوي لسورة التكاثر التي يذكر فيها تفسيرا منهجيا ل"علم اليقين" و"عين اليقين" وسورة الحاقة الآية (51) "وإنه لحق اليقين"، ويقول في تفسيره أن "علم اليقين" هو العلم بالشيء دون معاينته وقد يصل هذا العلم إلى درجة الإيمان به، لكن "عين اليقين" هو مشاهدته ورؤيته عيانا وهي درجة أعلى في المعرفة للوصول إلى اليقين، لكن تكتمل المعرفة بالتجربة والمعايشة وهي درجة "حق اليقين". ولقد كنت أبحث مع طلاب الدكتوراة في قسم العمارة في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل عن منهج فلسفي أصيل للبحث العلمي يجمع بين الفكرة واختبارها وإمكانية تطبيقها على أرض الواقع ووجدت أن هذا المنهج الثلاثي شاملا ويمكن أن يشكل منهجا فكريا نظريا وعمليا لأي بحث علمي. على أن هناك إشكالية مرتبطة بمعنى اليقين في القرآن، فهو يعني "العلم الجازم بالشيء الذي لا يرقى له شك"، لكن في البحث العلمي لا يوجد مثل هذا الجزم الذي لا يرقى له الشك، وإلا خالف المنهج "الابستومولوجي" الذي يحث على ارتقاء المعرفة باستمرار، فاليقين الجازم بأن كل نفس بشرية ستموت في لحظة ما، غير اليقين العلمي الذي قد يخالطه بعض الشك، وهذا في الأساس مرتبط بطبيعة المعرفة البشرية الناقصة لذلك فإن الله يقول في سورة التكاثر "كلا سوف تعلمون" ثم يقول مباشرة "ثم كلا سوف تعلمون"، وهي إشارة مستقبلية أن العلم بالشيء عبارة عن طبقات وكل طبقة تحقق جزء من اليقين. في سورة فُصّلت، الآية (53)، يقول الله تعالى "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم"، وهي رؤية معرفية مفتوحة على المستقبل ليست محدودة بزمان أو مكان، وتؤكد أن المعرفة الإنسانية غير قابلة للتوقف طالما أن البشر يعيشون على وجه الأرض. القرآن مليء بالآيات التي تحث على الاستمرار في البحث عن المعرفة مما يعني أن البشر لن يتمكنوا من الوصول إلى اليقين المعرفي الجازم إلا في الظواهر الكونية المرتبطة بطبيعة خلق الله لها، وفي نفس الوقت هي دعوة مفتوحة للبحث وتقصي المعرفة للوصول إلى أعلى مرتبة ممكنة من اليقين. يمكن أن أربط هذا التصوّر بالفضول المعرفي، الذي يحث عليه القرآن بوضوح. وكان السؤال لدي هو كيف يمكن خلق هذا الفضول لدى الباحثين الشباب، خصوصا طلاب الدكتوراة، فالقرآن يخاطب البشر بأنهم سيعلمون ثم سيعلمون لكن لن يصلوا إلى مرتبة اليقين إلا بعد معايشة الشيء إلا من آمن، والحديث هنا عن الجنة والنار والنعيم والعذاب وعن الحقيقة الإلهية بالدرجة الأولى، وفي نفس الوقت يخاطب البشر من أجل الترقي في مراتب اليقين المعرفي من خلال تحفيز فضولهم المعرفي وحثهم على التفكير والاكتشاف وسبر أغوار عظمة صنع الله والوصول إلى أسرارها. يمكن تمثل هذا النموذج الإلهي في تطوير منهج قرآني للبحث العلمي، فهذا النموذج المفتوح على التفكير الدائم في ارتقاء المعرفة العلمية يفترض أن يحث الباحث على عدم التوقف، فالحصول على الدكتوراة ليس نهاية المطاف والترقية العلمية ليست هي الهدف من العلم والمعرفة بل يجب أن يُبنى الشغف المعرفي من خلال هذه التعاليم التي يحث عليها ديننا الحنيف ويفترض الوصول بهذه المعرفة إلى التطبيق العملي على أرض الواقع حتى يستفيد منها البشر، ولا أقلل هنا من المعرفة النظرية التي تعتبر أساس لكل معرفة. وبالطبع لا استطيع أن أحصر الفضول المعرفي في الباحثين الاكاديميين، الذين هم أقرب إلى البحث عن المعرفة الجديدة، لكنه حق للجميع، ويفترض من كل إنسان أن يكون باحثا عن المعرفة بالكيفية التي يراها، لكن أدعوه إلى فهم المنهج القرآني الذي يدفع إلى الترقي في مراتب اليقين المعرفي، فهو منهج مرتبط بخلق الإنسان وطبيعته العقلية، فقد خلقه الله كي يكون باحثا ومتفكرا في خلق الله، وأن يسعى للوصول إلى الحقيقة، وكل بحث علمي هو "سعي للوصول إلى الحقيقة" ولا نستطيع أن نقول أن البشر يبحثون عن المعرفة من أجل المعرفة فقط، فقد قال الله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" (فاطر: 28). إنها معرفة تقود إلى عظمة الخالق الذي أحسن كل شيء صنعا، ففي الإسلام لا يوجد فاصل بين حقيقة العلم والمعرفة والطريق إلى الوصول إلى حقيقة الخلق والخالق. كل كشف معرفي هو كشف عن جزء من حقيقة الخلق الكبرى، التي هي موجودة ويدعونا الله إلى فهمها وكشفها، وكل تفاعل واحتكاك بشري مع المعرفة هو جزء من الفطرة البشرية وطريق إلى فهم الطبيعة الإنسانية المُشبّعة بالعقل الفضولي الساعي لفهم أسرار الحقيقة الكبرى. تأكيد هذا المنهج الفلسفي المعرفي لدى الباحثين الشباب يعتبر المهمة الكبرى للتعليم، فلا جدوى من أي فلسفة تعليمية لا تسعى إلى خلق "الترقي المعرفي" لمخرجاتها التعليمية.