حينما أشار الأيقوني «بابلو بيكاسو» لامتلاك الفنان بداخله (رساماً وشاعراً في آن واحد) يستطيع كتابة لوحة، كقدرة رسم الأحاسيس في القصيدة توازي الرائد «خوان ميرو» ليؤكد على حتمية صبغ الأعمال الفنية بجمل شعرية نابضة. فالفنان يرسم وهو يفكر بالشعر، ويلخص ويجسد نصوص شعرية تنفث بها أطروحاته، ويسرد قصائده الخاصة وبمنطق الروحانية نفسها، الأمر الذي يدشن معه حواراً إبداعياً جديداً متجدداً مع اختلاف المساحات. وعندما انبرى الشعراء الإغريق مثل: (أريستوفان، لونغوس، ميمنرموس، سافو، إسخيليوس) لتسطير المتون الشعرية وترتيب الكلمات واللغة لتصوير المشاهد والأحاسيس داخل بناء القصيدة، مع مراعاة الإيقاع والوزن والدلالة، وكذلك الشعراء المصريين (أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، إبراهيم ناجي) لتأسيس إيقاع موسيقي خاص، وإضفاء جمالية فنية على النصوص الشعرية، جاءت أعمال الفنانة «مني العجمي» لتعظم محاولات التعبير عن المشاعر في صور بصرية مؤسسة على اللون والمساحة والخط، واسترداف القصائد وتشخيص أبيات شعرية ومنظومات حالمة اختارتها الفنانة بنفسها كشاعرة حكاءة داخل إطار من الصدق الذي يجسد حيوية الطبيعة ونضارة البيئة المصرية، والصياغة التي تقبع فيما وراء النص السردي، والتعبير عن هوية وذاكرة جمعية وحالة وجدانية نشطة، عبر أنموذج مغاير في تناول وصياغة المنظر. فالشعر لديها ينبت في أحضان الخطوط والأشكال والألوان، وهو ما خصب موضوعاتها لتنحو عن الرسم الطفولي المعتاد، لصالح انحياز يسرد في بلاغة عبر قدرات أدبية وتعبيرية للقصائد البصرية التي تتلامس مع أفكارها الشخصية، والصور المكثفة ذات الأوزان غير المعتادة سواء كانت منظورة أم مستحضرة في الذهن، لرسم قصائد تتسم بالبساطة والحداثة الفنية الحيوية المفعمة بالرومانسية والشاعرية والعاطفة، وإضفاء الصبغة الموسيقية، وتصوير الانفعالات المختلفة على وجوه الشخصيات والأضواء العاطفية المعبرة، بهدف تسجيل التعبير عن عالم اللعب والمرح والسعادة. ومن خلال (نافذتها الذاتية) ولتمايز الفن الإسلامي بأنماطه الهندسية والزخرفية والنباتية، تعرض الفنانة على الجمهور موضوعات كتلية ومساحية وخطية احترافية وفق أولويات بصرية حداثية غير مألوفة ترتكل للشبكيات الإسلامية وتفكيكها وتجسيمها كعناصر زخرفية مع إمكانية دمجها ومعايشتها مع عناصر آدمية ومعمارية أخرى، وترتيب العناصر في مصفوفات أفقية استردفت من تراتيب الفن المصري القديم، وترصيص العناصر في كتل متزاحمة على أطراف العمل، أو تكثيف العناصر عبر تمثيلات أسطورية أثيرية أساسها نفض العناصر من وزنها الكتلي الثقلي الذي يجعلها رابضة فوق خط الأرض لتتخلى عن جاذبيتها لصالح التحليق برشاقة وخفة وزنية داخل فضاءات لا تخضع لقانون الجاذبية ولا تنتمي لزمكانية محددة، في كل يحتفي بإعلاء الأجواء الحالمة التي تتواصل مع عمق جوانية المتلقي، لتؤسس الفنانة بذلك للمغناطيسية التي تحقق الترابط بين شخوصها التي تحولت داخل هذا النسق لمستحدث سحري غنائي يموج بالمشاعر ومفعم بالبهجة الذي يسكن بيئات لا تشكلها إلا عاطفة «منى العجمي». وفي مدارات الإفصاح عن مشاعرها الدافئة ورسم الشعر، وبهدف تجسيد فكرة تأملية مجردة، حيث تهيم عناصر العمل ومفرداته المحلقة وسط السحاب محلقة مع عالمها ذي النغمات الحالمة والتمويهات اللونية الشاعرية الممتلئة بالمرح والسعادة، أطفال يحلقون في سماوات مسحورة مع طيور ونجوم ومكعبات هندسية وتقسيمات مساحية بهيجة، مراقبة لعوالمها الأرضية وبيوتها التي تسكنها من أعلى، وتم الاستعانة بطرز من الخطوط وتنويع المسافات الفاصلة، لتتحول داخل هذا النسق لمفهوم يتفاعل ويتوحد مع الفراغ، وتتوالد في أعمالها أشكال طفولية ذات تلقائية مبهجة الملامح خالصة المشاعر، غير متماثلة في مشاهداتها وقدراتها على البوح، لإعلاء درامية المشهد البصري الذى يحمل في ثناياه موهبة جادة تستحق كل تقدير وتكريم. ففي أعمال «مني العجمي» يجابه المتلقى وجهاً لوجه أمام حالة لونية مبدعة، وعوالم وأجواء مناخية ولجت من نستولوجيا عوالم الطفولة، والمرح والبهجة والتفاؤل والحب والخير والولع بالحياة والأمل، وعهود الطفولة البريئة، وبساطة الحياة، والطاقة الجارفة لعوالم البراءة القادرة على مس وجيب القلب، عبر (إبداعات بصرية تتعاضد كنصوص شعرية تشكل في أبهى تجليات التعالي في الرؤية، بمنتهى الصدق بعيداً عن أي صخب حكاء وتفصيليات مصطنعة تؤثر على الاستقبال العاطفي الجيد لرسائل العمل الضمنية - ومنظومات عاطفية وتعبيريه مرحة غاية في الرقة ورهافة الحس والتجانس اللوني المعبر، والتأثيرات المساحية البليغة) تحقق بذلك تقدماً تقنياً وفنياً. وتعزيزًا لحدة تصويرها ودقته، انحازت الفنانة للترديد والتنغيم الواضح في استخدام الخطوط مع العناية بحركتها واتجاهاتها والدقة في توزيعها في أماكن محددة بعينها، والانتقال من كثافة خطية لأخرى بصورة ولغة بصرية واعية تتسق ومعطيات الإدراك البصري وقوانينه المركبة. هذا إلى جانب الاتجاه لإسقاط الأحجام والأشكال إلى تدرجات لونية، تمنح كل مشهد مرسوم ضوؤه وعمقه، حيث تشكل المفردات البصرية لديها وفعل الظلال والنور لغة بصرية أخرى تستثمر بشكل فاعل تعبيري، ينفث اللون فيها قيمة رمزية وسردية ويؤدي دوراً ركيزاً بتمدده داخل وحول الأشكال، لتعزيز إنسانية كل شخصية مرسومة تقطن هذه المشاهد داخل المناخ الأثيري الاستيهامي الذي يعزز القوة الإيحائية لسردها الحكائي. وإعمالاً لأهمية الفضاءات في شحذ عاطفة وتعبير العمل، تمكنت الفنانة «مني العجمي» من خلال ثقافتها الواسعة لتسطير فكرة جديدة للفراغ، حيث جاءت خلفيات أعمالها هادئة حتى ينتشر في أجوائها حالة من السحر والروح الأسطورية، ليصبح بيئة ملائمة لتسكن فيها عناصرها المتنوعة، وأداة رابطة توحيدية بين تلك العناصر الكثيرة والمتنوعة الأحجام ومنحها الكيان الواحد، حتى أصبح هناك خيط متسلسل يساعد على انتقال العين بحرية وسهولة بين العناصر، الأمر الذي يكثف من تلك العلاقة والرابطة الحيوية بين الجمهور ورسالة أعمالها. *الأستاذ بقسم التصميمات البصرية والرقمية المساعد