شهدت مدينة نيويورك قبل أقل من أسبوعين اختتام أعمال مؤتمر حل الدولتين الذي عُقد برئاسة سعودية فرنسية وبمشاركة دولية وأممية واسعة، بهدف ترسيخ مسار ملزم يعزز الاعتراف بدولة فلسطين، ما يحقق فرص السلام الإقليمي عبر تسوية القضية الفلسطينية بالطرق السلمية وتنفيذ حل الدولتين، والأهم من ذلك كان المطالبة بإيجاد حل فوري للانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين وإنهاء أمد الصراع الذي يذهب عشرات الفلسطينيين ضحية له كل يوم. ومع ما نتج عن المؤتمر من استعادة الزخم العالمي حول القضية الفلسطينية وبعث الحياة فيها من جديد، بالنظر إلى الدول المشاركة ومحاولتها بلورة رؤى اقتصادية وسياسية وأمنية للإطار الخاص بدولة فلسطين، وعلى رأسها إسبانيا والأردن وإندونيسيا وإيطاليا واليابان والنرويج ومصر وبريطانيا وتركيا والمكسيك والبرازيل والسنغال وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي بمجموعة حول جهود يوم السلام، إلا أن التعنت والصلف الإسرائيلي والدعم الأمريكي لا يزالان يقفان حجر عثرة أمام أي تقدم مثمر في هذا الاتجاه. وعلى الرغم من العنجهية الإسرائيلية فقد أبرز المؤتمر عدداً من المؤشرات الإيجابية التي تجعل من هذا المؤتمر خطوة هامة في سبيل تحريك مياه القضية الراكدة واكتفاء العالم بالتنديد دون خطوات عملية يمكنها مساعدة الشعب الفلسطيني أمام آلة الإبادة الإسرائيلية، فقد تمكن المؤتمر من جمع وتحشيد قوى دولية وإقليمية هامة تستطيع ممارسة الضغط على إسرائيل لتحجيم إطلاق يدها بهذا الشكل المروع، كما أن مخرجات المؤتمر أطلقت آلية للمتابعة والمساءلة، حيث تم إنشاء تحالف عالمي لضمان تنفيذ المخرجات ضمن إطار زمني واضح. ولا يفوتنا أن من ضمن الدول المنضمة للمؤتمر دولاً كانت داعمة للكيان الإسرائيلي بل مصطفة معه اصطفافاً تاماً وتعلن عن نفسها كحلفاء دائمين لإسرائيل وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا، حتى أن بعضها أعلن عن نيته الاعتراف بدولة فلسطين خلال سبتمبر القادم. ولعلها المرة الأولى التي تشهد فيها القضية الفلسطينية مثل هذا الزخم في محاولة تسوية القضية الفلسطينية سلمياً وتأييد حل الدولتين من مثل هذا العدد من الدول ذات الثقل السياسي والاقتصادي عالمياً والاعتراف بأنه بات الحل الوحيد بعدما فشلت الآلة العسكرية وممارسة أقصى الضغوط على الفلسطينيين في إبادتهم أو تهجيرهم، والفضل في ذلك بعد الله يرجع لهذا الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه رغم ما عاناه سابقاً وكل ما يعانيه حتى الآن. الجميع بات يعلم الآن أن الولاياتالمتحدة تخلت عن دورها الذي كانت تدعيه كوسيط نزيه بين الطرفين، والجميع يذكر كيف وقفت مرات عدة أمام قرارات وقف الحرب في الأممالمتحدة ومجلس الأمن رغم إجماع دول العالم، ما يبرز للعالم مَن الذي يقف عقبة أمام حل القضية الفلسطينية، وقد يكون هذا في صالح القضية لا ضدها. إن السياسة التي تختطّها الآن الولاياتالمتحدة هو رغبتها في تحقيق تطبيع عربي مع إسرائيل دون التزامات جوهرية تحقق لهذه المنطقة السلام والاستقرار، وهو ما وافقت عليه دول عدة حتى الآن، لكن في المقابل رفضته المملكة العربية السعودية سابقاً ومستمرة في إعلان رفضها له رسمياً عبر سمو ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان ووزارة خارجيتها مشترطةً إقامة الدولة الفلسطينية قبل تحقيقه، وكان آخر تأكيد على ذلك تصريح وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان قبل أيام فقط خلال المؤتمر الصحفي مع نظيره الفرنسي جان نويل بارو على هامش مؤتمر حل الدولتين، إذ قال إن إقامة علاقات مع إسرائيل لن تحدث دون إقامة دولة فلسطينية، مشيراً إلى دور الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي يمكن أن يكون محورياً لحل النزاعات في منطقة الشرق الأوسط، وأن خطوة إقامة دولة فلسطينية من شأنها تحقيق استقرار المنطقة، وأوضح سموه أن مؤتمر حل الدولتين عكس إرادة سياسية مشتركة للمضي قدماً نحو تنفيذ حل الدولتين وتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني بالحرية والكرامة، مؤملاً أن تترجم قرارات المؤتمر في الوصول إلى تحقيق سلام عادل ودائم في المنطقة. إن أهمية هذه التصريحات في هذا الوقت أنها تبرز الموقف السعودي من القضية الفلسطينية، ليس من خلال الشعارات الرنانة، ولكن من خلال خطوات عملية قابلة للتنفيذ، عبر حشد العدد الأكبر من الأصدقاء والدول الحليفة لدعم تنفيذها في وقت يكثر فيه المشككون ومن يلقون بالآراء جزافاً، وهي برئاستها لهذا المؤتمر الدولي بالشراكة مع فرنسا تستند إلى موقفها الثابت تجاه القضية الفلسطينية واستمرار جهودها في دعم حقوق الشعب الفلسطيني قدر استطاعتها، بهدف تحقيق السلام العادل والشامل الذي يكفل قيام دولة فلسطينية حرة. وليس معنى ذلك أن مخرجات هذا المؤتمر ستكون قابلة للتنفيذ من الغد أو سيتبعها إعلان دولة فلسطين غداً، ولكني أقول إنها خطوة تتبعها خطوات وبذل كل جهد مستطاع على الطريق للاعتراف بالقضية الفلسطينية وانتهاك حقوق الفلسطينيين واغتصاب أرضهم وحق الشعب الفلسطيني في الحياة كريماً في وطن حر وإبقاء القضية حية واستغلال الزخم العالمي والتعاطف الدولي الذي ولدته حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل منذ ما يقرب العامين بمرأى ومسمع من العالم أجمع على شعب أعزل يخيرونه بين موتٍ سريع بالقصف أو موتٍ بطيء بالتجويع. إن المخطط الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية باعتقادي يسير باتجاه الفشل، فكل ما أعلنته إسرائيل من أهداف منذ بدء حربها الحالية لم يتحقق منه شيء حتى الآن، وما فعلت سوى قتل عشرات آلاف المدنيين وتسوية القطاع بالأرض لجعله غير صالح للحياة، وهنا تأتي أهمية هذا المؤتمر ومخرجاته وما يمكن أن يُبنى عليه من خطوات، خاصة مع تشكل لجان من عشرات الدول تتنوع مهامها بين قضايا مختلفة، منها محور الدولة الفلسطينية الموحدة ذات السيادة، وتعزيز الأمن، ولغة السلام، ودعم نجاح فلسطين اقتصادياً، وإعادة التعمير، بالإضافة إلى الحفاظ على حل الدولتين، ونشر الاحترام للقانون الدولي وجهود يوم السلام. ومن المهم التنويه إلى أن ممارسة مثل هذا الضغط العالمي إن لم يحقق الهدف الأسمى بتحرير هذه الأرض إلا أنه ثبت عملياً فائدته مؤخراً ورأينا كيف آتى الضغط العالمي دولياً وشعبياً وإعلامياً أُكله في مسألة المجاعة وأجبر إسرائيل على تخفيف حدة المجاعة ولو قليلاً بزيادة عدد الشاحنات وإن لم يكن بالشكل الذي نتمنى، وكل ذلك يجعل المؤتمر بمخرجاته وما يشكله من ضغط دولي على إسرائيل قد يمثل لحظة حاسمة ليس فقط للشرق الأوسط، بل للعالم أجمع وللسلام العالمي. * أستاذ زائر بكلية الزراعة وعلوم الحياة والبيئة، قسم الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية بجامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولاياتالمتحدة، ومستشار في كلية العلوم الزراعية والغذائية في الجامعة الأميركية في بيروت بلبنان.