في الحياة أيادٍ متسللة كثيره في مختلف أشكال الحياة.. منها ما تسلل بقوة صارمة والأُخرى جارحة ومنها ماكان تسللها ناعماً، عبرت تلك الأيادي إلى حياتنا اليومية وتجاوزت إلى التعليم وشاشات الإعلام. نعم يد خفية تطبع الوعي وتُشكل الأذواق وتصنع (القبول الجمعي) لأي فكرة أو سلوك. تلك اليد هي «سُلطة» ذات تأثير ولكن تأثيرها مختلف؛ بل أرى أنها الأشد تأثيراً، لأنها لا تحمل شعاراً سياسياً ولا تحتاج لقرار نافذ، إنما هي التي تبني هيمنتها عبر لغتها وتعليمها ووسائط تعبيرها ورموزها، تلك اليد هي (السلطة الثقافية). نعم نحنُ بحاجة لها لأنها لا تستند إلى الشهرة، إنما إلى القيمة الفعلية، ولا تعيد لنا تكرار المشهد، إنما في كُل مرة تعيد تشكيله بما يتناسب مع المجتمع لتخلق وعياً كافياً لا مجرد انبهار. في كُل مرة أبحث عن هذه السلطة الثقافية أجد أنها امتيازاً أدبياً حقيقياً وليس وظيفة نخبوية، إنما شبكة معقدة من المفاهيم والأصوات التي تتحكم في الطريقة التي نفهم بها أنفسنا، ونرى بها العالم. وفي ناحية أخرى أرى أنها أيسر الطرق للهيمنة؛ لأنني كما ذكرت سابقاً أنها الأكثر تأثيراً والأقوى سيطرةً لتواجدها في ذاكرة الطفولة، وسلوك المراهق، وخيارات الأجيال القادمة.. نعم هي سلطة ناعمة ومؤثرة هي أعمق حتى من أي سلاح. لنرى مثلاً «المثقف النجم» بدلاً من «المثقف المُفكر». في عصرنا هذا عصر المنصات والأضواء صعدت أسماء وتحولت إلى علامات تجارية.. هل لأنها غيّرت وعياً أو هذّبت سلوكاً؟ لا.. بل لأنها انسجمت مع ذائقة الجمهور، ورضا السوق. وهذا يعتبر أيضاً نوعاً آخر من السلطة، لكنه يعيد تدوير المحتوى لا صناعته، وفي المقابل أسماء أحدثت اهتزازاً في المشهد الثقافي، لأنها اصطدمت بالنسق، ولم تتواطأ معه، مثل ناقد النسق الدكتور القدير عبدالله الغذامي، والناقد الأدبي إدوارد سعيد، وغيرهم. وفي التعليم والإعلام أيضاً.. كم فكرة تم ترسيخها على أنها حقيقة لمجرد أنها وردتنا في كتاب مدرسي، أو تكررت في نشرة رسمية، كلها تُصاغ غالباً ليس بالقانون إنما بالثقافة. السلطة الثقافية ليست مكافأة للمرضيّ عنهم، بل مسؤولية أمام من لم يولد بعد، كُل شخص منّا مسؤول عن تلك الثقافة، لا نُريد أن ننتظر منها أن تمنحنا فقط الإجابات؛ بل أن تدفعنا أيضاً للتساؤل. السلطة الثقافية ليست ما تحفظه، بل ما ترفضه بوعي، وتتبناه بفهم؛ لأن هذه السلطة إما أن تصنع أُمة يقظة، أو تُغفل أجيالاً كاملة باسم التقدير والقبول، ولنكن نحنُ الشهود، لا مجرد حشود في مسرح الأذواق العامة.