حين قِيل للشيخ محمد عبده إن رجلًا قد حفظ صحيح البخاري عن ظهر قلب، علق ساخرًا: «لقد زادت نسخةٌ في البلد!»، في إشارةٍ لاذعةٍ إلى أن الحفظ وحده لا يكفي إن لم يقترن بالوعي والفهم والقدرة على إعمال النص في واقع متغير. هذه الفكرة التي تنطق بها الحكمة التراثية لم تكن يومًا غريبةً عن الحضارة الإسلامية، التي عرفت منذ وقت مبكر أهمية ربط المعرفة بالممارسة، والتأهيل بالتمكين، عبر معايير صارمة تميّز من يستحق حمل المسؤولية العلمية والمهنية. ولأن الأفكار العظيمة لا تموت، فقد استعارت النهضة الغربية، في صميم ثورتها الصناعية، هذه الفلسفة ذاتها عندما جعلت من تقنين تأهيل الممارسين معيارًا للجودة، وأداةً لبناء مؤسسات فعالة، ليولد بذلك مفهوم الاختبارات المعيارية «Standardized Test» كأحد مرتكزات النهضة. في منتصف القرن التاسع عشر، واجهت الولاياتالمتحدة واقعًا قانونيًا متطلبًا في ظل التحولات الصناعية والاجتماعية المتسارعة، لكن التعليم القانوني لم يكن على مستوى التحدي. فقد كان النظام التعليمي السائد حينها مفككًا، يفتقر إلى المعايير الأكاديمية الواضحة، ويعتمد بدرجة كبيرة على التلمذة التقليدية في مكاتب المحامين دون إشراف علمي أو مؤسسي. وقد تبنّى النموذج البريطاني القائم على شهادة البكالوريوس في القانون(LL.B) ، لكن دون أن يرافقه تطوير جاد يراعي متطلبات البيئة الأميركية وحاجتها إلى قانونيين يمتلكون أدوات التحليل والتنظير والتطبيق. وهكذا، أصبح تخريج المحامين مرهونًا بتجربة شخصية غير متجانسة، تتفاوت في مستواها وجدواها، وتعتمد على التلقين، والافتقار للجانب التطبيقي، وأدوات العصر القانونية. لذا بدا أن القانون كعلم ومهنة يحتاج إلى ثورة لا إلى إصلاح جزئي، وكان لا بد من «عقل قانوني جريء» يطرح البديل ويؤسس لمسار مختلف. هذا العقل كان كريستوفر كولومبوس لانغديل، عميد كلية القانون في جامعة هارفارد، الذي قاد في عام 1870 ثورةً تعليميةً غيرّت وجه التأهيل القانوني الأميركي. يؤمن لانغديل أن القانون لا يختلف عن الطب أو الفيزياء، وأن تدريسه يجب أن يقوم على التحليل العقلاني والملاحظة والتجريب. ولتحقيق ذلك، طرح ثلاث ركائز: التعلم بالممارسة، اعتماد المبادئ التحليلية بدلاً من الحفظ، وابتكار منهجية جديدة تُعرف ب «الطريقة القضائية» أو(Case Method) التي تعتمد على تحليل الأحكام القضائية، واستخلاص القواعد منها بطريقة تنمي التفكير النقدي وتحرر الطالب من سلطة التلقين. فاستخدم طريقة سقراط القائمة على الأسئلة المتسلسلة، وألغى الكتب التقليدية، وأدخل طلاب القانون إلى قلب الممارسة التحليلية اليومية، فأصبح ما يقرأه الطالب حتى تخرجه يقارب مئة ألف صفحة. واجهت أفكاره مقاومةً من المدارس التقليدية، لكن روحه التجديدية في كلية القانون في هارفرد ألهمت جامعة شيكاغو عام 1902 لتتبنى المنهج وتأسس أول برنامج للدكتوراه المهنية في القانون تحت اسم Juris Doctor (JD)، يوازي في الاحترام الأكاديمي درجة الدكتوراه المهنية في الطب (MD)، ودرجة الدكتوراه في التعليم (EdD) وقد صرّح عميد الكلية حينها أن الهدف لم يكن تأسيس كلية تقليدية، بل إعادة تعريف كيف يُعد المحامي للقرن العشرين. فوسط فوضى «مدارس القانون التجارية» الرخيصة، أرادت جامعة شيكاغو بناء معيارٍ ذهبيٍّ في التعليم القانوني، يُعيد للمهنة مكانتها الأكاديمية والمجتمعية. لكن الطريق إلى اعتماد درجة JD لم يكن مباشرًا ولا سريعًا. فقد استمرت معظم الجامعات الأميركية في منح درجة LL.B حتى سبعينيات القرن العشرين حين بدأت كليات القانون المعتمدة من جمعية المحامين الأميركية (ABA) بالتحوّل التدريجي إلى JD. ولم يكن هذا التحوّل نتيجة قرار مركزي، بل نتاجًا لتراكم التجارب التي أثبتت نضج البرنامج الجديد، وجودة مخرجاته، وملاءمته للمعايير المهنية الحديثة. كما أسهمت جاذبية المسمى الأكاديمي «دكتوراه في القانون» في ترسيخ مكانته، لا سيما في بيئة جامعية تنافسية تقدّر التصنيفات والشهادات العليا. وفي عام 1975، أصبح JD هو المؤهل الوحيد الذي يتيح دخول اختبار المحاماة (Bar Exam)، وهو ما جعل من الدرجة بوابة موحدة لتأهيل المحامين والقضاة وأعضاء النيابة العامة على حد سواء. تطلب نضوج هذه الرحلة قرابة مائة عام، لكنها أثمرت منظومة قانونية فاعلة تجذرت في كل مفاصل الدولة. فقد أدى تحسين كفاءة الخريجين إلى دعم مؤسسات التشريع والقضاء، وغدت الغالبية العظمى من أعضاء الكونغرس منذ الثمانينات من حاملي JD، مما ساعد في إنتاج تشريعات مرنة ومحكمة تدعم النمو الاقتصادي. كما أصبح خريجو JD من أبرز من أدخل التحليل الاقتصادي في فقه القانون، وأسهموا في رفع جودة الصياغات التشريعية، وتعزيز البحث القانوني المؤسسي، مما انعكس على استقرار البيئة القانونية ورفع ثقة المستثمرين. وتشير بيانات جمعية المحامين الأميركية إلى أن خريجي JD يتمتعون بأحد أدنى معدلات البطالة في العالم، حيث يحصل نحو 85 % منهم على وظائف خلال أقل من سنة من التخرج، ويعملون في قطاعات متنوعة من مكاتب المحاماة إلى الوظائف الفيدرالية العليا. وكشفت دراسات حديثة أن الولايات التي ينتشر فيها خريجو JD تحقق معدلات أعلى في حماية حقوق الملكية وجذب الاستثمار وتقليل النزاعات. بل إن 56 % من رؤساء الولاياتالمتحدة كانوا من حملة هذه الدرجة، مما يعكس قدرتها على صناعة قادة لا مجرد ممارسين للمهنة. برنامج JD لم يكن مجرد درجة أكاديمية بل كان رؤية إصلاحية متكاملة، ربطت بين عمق التحليل، والتكوين المهني، والخدمة العامة. فالمسار لا يُفتح إلا لمن اجتاز اختبار القبولLSAT الصارم، ثم خاض ثلاث سنوات من الدراسة المكثفة، بعد مرحلة بكالوريوس في أي تخصص تكون تمهيدية قبل الالتحاق بالبرنامج، ليبلغ إجمالي سنوات التأهيل قرابة سبع سنوات، يُختتم باختبار المحاماة، ما يجعل الخريج شبيهًا من حيث الجهد والتكوين بخريجي كليات الطب. وقد تأسس هذا البرنامج على فلسفة تأهيل العائلة القانونية بأكملها، ومأسسة الجودة الشاملة، وربط الدراسة النظرية بالتطبيق العملي، وفق تصميم يستوعب ثالوث المعرفة والتدريب والقياس، حتى أصبحت JD علامة تجارية للجودة القانونية. أَلْهَمَ نجاح التجربة الأميركية عددًا من الدول لتبنّي النموذج كاملا أو استلهام عناصره، بدءًا بكندا التي اعتمدته منذ عام 2001، مرورًا بنماذج هجينة في أستراليا وسنغافورة والصين. كما ترك بصمةً واضحةً في إصلاحات المملكة المتحدة، التي أعادت هيكلة مسار التأهيل المهني بإطلاق اختبار الكفاءة الموحد (SQE)، فيما استوحت بعض الجامعات الأوروبية برنامج JD عند تصميم برامج LL.M في القانون المقارن. وقد اختلفت أنماط التأثر وفقًا للفوارق الجوهرية بين النظامين الأنجلوساكسوني والمدني (Civil Law) الذي يركّز على النظريات القانونية ونصوص التشريعات باعتبارها قواعد أساسية تُنظم الحقوق والواجبات، تُبنى عليها لاحقًا الممارسات التطبيقية -كالصياغات القانونية والتدريب القضائي- لما بعد البكالوريوس، ضمن فلسفة تدرّجية تؤصّل الجانب النظري قبل الانتقال إلى الممارسة العملية. وقد أخذت الدول العربية بهذه الفلسفة للتأهيل القانوني فبدأت بالتكوين النظري في البكالوريوس، ثم تُلحقه بمسارات تأهيلية إضافية، سواء عبر الدراسات العليا، أو الدبلومات المهنية، أو برامج التدريب العملي في المؤسسات القانونية. أدَّى تبنّي التأهيل المتدرّج في الدول العربية إلى بروز فجوات في التأهيل القانوني. وقد أشار تقرير الإسكوا لعام 2021 إلى أن كليات القانون في العالم العربي لا تزال تعاني من تقليدية المناهج وجمود في أساليب التدريس، مما يفاقم الفجوة المتزايدة بين مخرجات التعليم القانوني واحتياجات سوق العمل. وقد أظهر التقرير أن معدلات التوظيف بعد التخرج تنخفض إلى ما دون 35 %، نتيجة ضعف مواءمة المحتوى الأكاديمي مع المهارات العملية المطلوبة. ويُلاحظ أن النموذج السائد في تأهيل القانونيين في المنطقة لا يزال يرتكز على دور «القاضي/المحاضر» بوصفه المرجع المعرفي، أكثر من تركيزه على تكوين «الممارس/المحلل» القادر على توظيف المعرفة في سياقات واقعية. وهو ما يحدّ من قدرة الخريجين على ممارسة التفكير النقدي، وتطبيق القانون بمرونة وكفاءة في بيئات مهنية متغيرة. تختزن تجربة JD مسارًا إصلاحيًا متكاملًا بدأً من قاعة الدرس وانتهى إلى بناء دولة عصرية، حيث اندمج التعليم القانوني الراسخ مع احتياجات المجتمع والمؤسسات، فأنتج اقتصادًا نابضًا بالحيوية، وبيئة قانونية مرنة. وتمتلك السعودية اليوم فرصةً فريدةً لتبني هذا النموذج من خلال تطوير «برنامج الدبلوم العالي للعلوم القانونية»، بما يجعله مختبرًا لإعادة هندسة التأهيل القانوني الوطني. فرغم ما يتيحه البرنامج من تركيز على التشريعات الوطنية، إلا أن غياب التحليل النقدي والتطبيق العملي المكثف يبقيه قاصرًا عن بلوغ الأثر الشمولي. فخريج JD لا يُعد فقط للترافع، بل يُصقل ليكون قائدًا استراتيجيًا، ومهندسًا تشريعيًا، وصانع سياسات، وهو ما نحتاج إليه اليوم لإعادة ضبط التعليم القانوني السعودي بما يحقق عدالة فاعلة واقتصادًا تنافسيًا ومجتمعًا قانونيًا ناهضًا، لأن إصلاح منظومة العدالة يبدأ من إصلاح تأهيل أفرادها، وما من إصلاح أعمق من أن يبدأ من قاعة الدرس؛ فهندسة التعليم تسبق هندسة العدالة. * مستشار قانوني