ما حدث في نيويورك كان إنجازًا للقيادة السعودية ودبلوماسيتها الهادئة واختراقًا للهيمنة الصهيونية على القرار العالمي على الرغم من الضغوطات المعرقلة التي تعارض هذا الحل. وكانت كلمات وفود الدول المشاركة استفتاء على صوابية الموقف السعودي الرسمي: «لا اعتراف بإسرائيل ولا تطبيع من دون إقامة الدولة الفلسطينية».. في سابقة دبلوماسية فريدة، ترأست المملكة العربية السعودية مؤتمر الأممالمتحدة للتسوية السلمية لقضية فلسطين وتطبيق حل الدولتين، بمشاركة مع فرنسا في خطوة تمثل مرحلة مفصلية في تاريخ الصراع العربي مع دولة الاحتلال الصهيوني. وقد جاء انعقاد هذا المؤتمر المهم بعد جهود مضنية وحثيثة بذلتها الدبلوماسية السعودية لجمع شتات العالم ووضع الدول الأعضاء في المنظومة الدولية أمام مسؤولياتها لرفع ظلم طال لعقود طويلة ولإعادة الاحترام للقانونين الدولي والإنساني الذي تتفنن حكومة الاحتلال في الدوس عليهما بذريعة "معاداة السامية" المعلبة، أي العداء لليهود، وأكذوبة "الهولوكوست" المبالغ فيها، التي سهلت الصهيونية العالمية ارتكابها لتنفيذ مشروع الدولة اليهودية، وهي بالمحصلة جريمة أوروبية أساسًا لكن العرب، والشعب الفلسطيني خصوصًا، تحملوا وزرها. وقد أدى الإرهاب الصهيوني لدول العالم، سياسيًا وإعلاميًا وعقائديًا، إلى التزام كثير من هذا الدول بالصمت بينما تمادت دول أخرى في دعمها لهذا الكيان المسلح نوويًا بشتى السبل، ومنها السلاح، لتمكينه من "الدفاع عن نفسه" ضد العرب "فيما يقترف هذا الكيان جرائم همجية غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، وما يجري ضد السكان المدنيين في غزة منذ نحو عامين، حيث التدمير الهمجي والمجازر اليومية وحرب التجويع حتى الموت، أكبر شاهد على ذلك. عندما باشرت المملكة بتوجيهات من سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، التواصل مع دول العالم المحبة للسلام، استطاعت إقناع دول كثيرة مؤثرة بأن القانون الدولي يجب أن لا يكون انتقائيًا ومزدوج المعايير وأن دول الاحتلال يجب أن لا تتمتع ب"كارت بلانش" للتصرف بحرية وتمزيق ميثاق الأممالمتحدة وحقوق الإنسان ورميه بلا خجل في وجوه الدول الموقعة عليه والإفلات من العقاب. ومن خلال هذا الحراك، استطاعت المملكة استثمار ثقلها في الاقتصاد العالمي ودورها الإقليمي والإسلامي في إحداث تحول جذري في موقف معظم دول العالم وإقناعها بأن السلام والاستقرار والتنمية في هذه المنطقة المهمة جيو-سياسيًا لا يمكن أن تتحقق من دون وضع حد لغطرسة اليمين المنفلت من عقاله والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة والتمتع بحريته أسوة بجميع شعوب العالم. وقد دافعت الدبلوماسية السعودية عن حجتها بثبات بعدما وصلت الجرائم الصهيوني مداها، وأصبحت مكشوفة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي على الرغم من محاولات التضليل والتعتيم الإعلامي، وبعدما أخذ صراخ الجوعى في غزة يطرق أسماع العالم مما شكل ضغطًا سياسيًا وقانونيًا وأخلاقيًا على صناع القرار. وكانت قيادة المملكة واضحة وصريحة وهي أنها كانت أول من طرح مبادرة السلام العربية قبل 23 عامًا لحل هذا الصراع، لكن حكومات الاحتلال المتعاقبة رفضتها مثلما رفضت قرارات مجلس الأمن ومنظمة الأممالمتحدة معتمدة على الغطاء السياسي الذي وفرته لها الإدارات الأميركية والدول الأوروبية. ومن خلال هذا المؤتمر، نجحت القيادة السعودية في إيقاظ العالم من سباته وتخاذله ولامبالاته ونفاقه السياسي في الوقت الذي تبتلع فيه إسرائيل أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية وتعتزم احتلال قطاع غزة لبناء مزيد من المستوطنات اليهودية. وكان منبر الأممالمتحدة تصويتًا على فاعلية الدبلوماسية السعودية التي جمعت وزراء خارجية الدول من مختلف قارات العالم لإقرار الوثيقة الختامية للمؤتمر لتسوية القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين التي أعلنها سمو وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان الرئيس المشارك للمؤتمر. وأوضح سموه أن الوثيقة تشكل إطارًا متكاملًا وقابلًا للتنفيذ من أجل تطبيق حل الدولتين وتحقيق السلم والأمن للجميع ضمن حدود آمنة ومعترف بها، كما نصت على أنه سيتم تضمين تعهدات دول أخرى مستعدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد اعتراف فرنسا وبعض الدول الأوروبية ونية بريطانيا و22 دولة أوروبية أخرى، وتود ألمانيا وإيطاليا، إعلان اعترافها بالدولة الفلسطينية المرتقبة. ما حدث في نيويورك كان إنجازًا للقيادة السعودية ودبلوماسيتها الهادئة واختراقًا للهيمنة الصهيونية على القرار العالمي على الرغم من الضغوطات المعرقلة التي تعارض هذا الحل. وكانت كلمات وفود الدول المشاركة استفتاء على صوابية الموقف السعودي الرسمي: "لا اعتراف بإسرائيل ولا تطبيع من دون إقامة الدولة الفلسطينية". وبهذا فقد قطعت القيادة السعودية الطريق أمام الأحلام الصهيونية وحاصرت المحاصِر لقطاع غزة وزادت من عزلته على الساحة الدولية وضيقت عليه الخناق لجره إلى بيت طاعة القانون الدولي.