في سياق ثقافي عميق تُجذر فيه الإبل منذ آلاف السنين، أصدرت وزارة الثقافة تقريرًا شاملًا بعنوان "اقتصاديات الإبل"، ضمن فعاليات عام 2024 الذي أُطلق ليكون عامًا مخصصًا للإبل. ويأتي التقرير تأكيدًا للمكانة المتأصلة لهذا الكائن في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمملكة، واستعراضًا لأبرز الأبعاد الثقافية والاقتصادية والمستقبلية المرتبطة به، بما يعكس التوجه الرسمي نحو تطوير قطاع الإبل باعتباره أحد الموارد الواعدة ضمن منظومة الاقتصاد الإبداعي. الحضور الثقافي والتاريخي للإبل.. يفتتح التقرير فصوله بإبراز العلاقة التاريخية العميقة التي جمعت بين الإنسان والإبل في شبه الجزيرة العربية، موضحًا أن هذه العلاقة لم تقتصر على الأدوار الوظيفية للإبل في النقل والتجارة والغذاء فحسب، بل امتدت لتُخلّد فنيًا عبر آلاف السنين. فقد وثّق التقرير وجود 688 نقشًا صخريًا للإبل في جبل أم سنمان بمنطقة حائل، إضافة إلى 118 نقشًا مماثلًا في جبل الكوكب بمنطقة نجران، تؤكد جميعها أن الإبل كانت جزءًا محوريًا من الحياة اليومية والرمزية لدى المجتمعات القديمة في الجزيرة العربية. كما يشير التقرير إلى موقع حِمى الثقافي في نجران، أحد مواقع التراث العالمي المسجلة في اليونسكو، الذي يحتوي على آلاف النقوش الصخرية التي تجسّد الإبل ضمن مشاهد الترحال، والتجارة، والاحتفالات، مما يعكس مركزية هذا الكائن في تشكيل الوعي الثقافي والرمزي للإنسان العربي القديم. ويستعرض التقرير تجليات الإبل في الشعر العربي والفنون البصرية، ويعرض أمثلة معاصرة مثل أعمال الفنانين عمر الراشد وزينة الشهري، بالإضافة إلى حضور الإبل في السينما السعودية، حيث رُصدت ستة أفلام منذ 2018 تناولت رمزية الإبل من زوايا ثقافية واجتماعية متعددة. مهرجانات الإبل.. في الفصل الثاني، يسلّط التقرير الضوء على الدور المحوري للمهرجانات والفعاليات الخاصة بالإبل، وفي مقدمتها مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل، ومهرجان خادم الحرمين الشريفين للهجن، ومهرجان ولي العهد للهجن. ويبيّن التقرير أن هذه الفعاليات تمثّل منصات اقتصادية وثقافية، تسهم في تنشيط حركة السوق المحلي، وتوفير بيئة مناسبة لتبادل المعرفة والابتكار، وخلق فرص استثمارية لرواد الأعمال. كما يُبرز التقرير البعد التكاملي لهذه الفعاليات، التي تشمل سباقات الهجن، الأسواق التقليدية، عروض الجَمال، المعارض، الندوات، والمحاضرات، بالإضافة إلى مشاركة دولية واسعة تؤكد عمق الاهتمام بهذا القطاع الحيوي. مشتقات الإبل.. يتناول الفصل الثالث من التقرير الأثر الاقتصادي لمشتقات الإبل، ويُشير إلى أن المملكة شهدت نموًا بنسبة 182.2 % في أعداد الإبل بين عامي 2019 و2021، مدعومًا بسياسات حكومية لتوسيع هذا القطاع. وعلى الرغم من هذا النمو، لا تزال المملكة تستورد بعض المنتجات لتلبية الطلب المحلي المتزايد، ما يشكل حافزًا للاستثمار المحلي في الصناعات المرتبطة بالإبل. ويستعرض التقرير الاستخدامات المتنوعة لألبان الإبل ودهونها، مشيرًا إلى احتواء دهون سنام الإبل على 79 نوعًا من الأحماض الدهنية، ما يجعلها ملائمة لصناعات دوائية وغذائية وتجميلية. كما يعرض تجربة شركة "نوق" كمثال على توظيف دهون الإبل في إنتاج الصابون والمنتجات التجميلية، ويؤكد على أن انخفاض تكاليف هذه الدهون مقارنة بزيوت مثل جوز الهند يمثل ميزة تنافسية. الإبل في صناعة الأزياء يفرد الفصل الرابع مساحة للحديث عن استخدام وبر الإبل في صناعة الأزياء والأنسجة، مؤكدًا أن الوبر يتميز بخصائص متفوقة مثل المتانة والعزل الحراري وقابلية التحلل الحيوي، مما يجعله مثاليًا لصناعة الملابس الشتوية والسجاد والبطانيات. ويبرز التقرير أن التوسع في هذا المجال يمكن أن يسهم في تقليل الاعتماد على المواد الصناعية المستوردة، ويعزز الصناعات التقليدية، ويرفد الاقتصاد الوطني بفرص عمل جديدة ضمن قطاع مستدام بيئيًا وثقافيًا. مستقبل اقتصاديات الإبل.. في فصله الخامس، يستعرض التقرير مستقبل اقتصاديات الإبل في ظل التقدم التكنولوجي، ويقترح حلولًا لمواجهة التحديات مثل الأمراض الوبائية، تدهور المراعي، وغياب البنية البيطرية الذكية. ويقترح التقرير استخدام تقنيات مثل الواقع المعزز، والروبوتات البيطرية، والذكاء الاصطناعي، والإدارة الذكية للموارد، بالإضافة إلى تطوير الإنذار المبكر، وزراعة النباتات المقاومة للجفاف، وتفعيل البحوث العلمية في الجامعات والمراكز المتخصصة. يقدّم تقرير "اقتصاديات الإبل" سردًا متكاملًا يربط بين الإرث الثقافي العميق للإبل وبين مستقبلها كقطاع تنموي. ويرى أن الإبل لم تعد مجرد جزء من الذاكرة الجمعية للمجتمع السعودي، بل مكونًا حاضرًا في الاستراتيجيات الاقتصادية والثقافية، يستحق الاستثمار فيه وتنميته بوسائل حديثة تعزز الاستدامة وتحقق العائد الوطني.