في فضاءٍ مفتوح يتّكئ على التاريخ وتحيط به ملامح الهوية، يُولد عرض "ترحال" بوصفه تجربة أدائية تتجاوز حدود الفن التقليدي إلى إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية بطريقة معاصرة. ليس "ترحال" مجرّد عرضٍ مسرحي؛ بل هو رحلة بصرية وموسيقية تبدأ من الذات وتنتهي عند الوطن، حيث تتداخل الأصوات والصور والحركة في سردٍ فنيّ يوقظ الشعور بالانتماء، ويعيد تعريف العلاقة بين الإنسان ومكانه. يأتي العرض كتجسيدٍ حيّ لفكرة الترحال في وجدان السعوديين؛ لا بوصفها مجرد انتقال جغرافي بين المدن، بل باعتبارها تحوّلًا داخليًا في الرؤية والوعي. شاب سعودي، تتقاذفه الأسئلة، يحمل حقيبته وينطلق في مسارٍ افتراضي يعبر فيه تضاريس المملكة، من جبال الجنوب إلى كثبان الشمال، من السواحل الزرقاء إلى الواحات، لا ليكتشف المكان فحسب، بل ليكتشف ذاته من خلاله. على خشبة المسرح، لا يعود الوطن خريطة صمّاء، بل يتحول إلى كيان نابض، تنبثق منه مشاهد حيّة تتعاقب بتدرج درامي يثير الدهشة، تنفتح الستارة على لوحة أولى تتداخل فيها الإضاءة مع الإسقاطات البصرية لتشكّل مناظر طبيعية خلابة، ثم تبدأ الرحلة: صوت خيل، رقصة شعبية، مقطع شعري، صوت أمّ تنادي، موسيقى تنبعث من آلة وترية قديمة، كلها عناصر تُنسج لتصنع عالمًا يذوب فيه الواقع بالفن. ما يميز "ترحال" أنه لا يسعى لتقديم صورة نمطية عن التراث، بل يغامر بإعادة تشكيله بأدوات معاصرة. التقنية هنا ليست مجرد زخرفة، بل لغة ثالثة بين النص والأداء، المؤثرات البصرية ثلاثية الأبعاد، العروض الجوية، الإضاءة الذكية، وتنسيق الصوت المتقن، تعمل كأدوات سرد بحد ذاتها، تُحاكي ذائقة الجمهور الحديث دون أن تنفصل عن الجذر الثقافي للعمل. لكن «ترحال» لا يكتفي بالمُشاهَدة، بل يدعو جمهوره للمشاركة الوجدانية. في كل مشهد، هناك ما يوقظ في الذاكرة صورة من الماضي، أو يلمّح لمستقبل محتمل. العرض يشتبك مع الحاضر، لكنه يستنطق التاريخ، فيصوغ منه حوارًا غير مباشر حول الهوية، والانتماء، وطبيعة التغير الذي تعيشه المملكة. وهذا ما يمنحه بعدًا فكريًا يتجاوز حدود المسرح، ليغدو فعلًا ثقافيًا يعبّر عن مرحلة. ورغم الطابع البصري الطاغي، فإن العرض لا يتخلى عن البعد الإنساني. الشاب بطل القصة ليس مجرد رمز، بل هو مرآة لجيل كامل يعيش تحولات متسارعة، ويسعى لفهم تاريخه دون أن يفقد بوصلته نحو المستقبل. هذا التوتر بين الثبات والتحوّل، بين الموروث والتجديد، هو قلب "ترحال" النابض، ومصدر فرادته. أما المكان الذي يحتضن العرض، فهو ليس تفصيلًا ثانويًا. فاختيار أن يُقدَّم العمل في فضاء حيّ من أحياء الدرعية، يضفي عليه سحرًا إضافيًا. حيث تتداخل الجغرافيا الحقيقية مع جغرافيا المسرح، ويتماهى الجمهور مع المكان، كأن العرض كُتب خصيصًا ليروي حكاية المكان من قلب المكان. في النهاية، لا يبدو «ترحال» مجرد عرض يُشاهد، بل تجربة تُعاش وتُستبطن. وكأن المسرح هنا لا يقدّم رواية، بل يوقظ ذاكرة، ويعيد ترتيب المشاعر في حضرة الفنّ. إنّه عرض لا يهمس للحواس فقط، بل يخاطب العقل والقلب معًا، ويمدّ الجسر بين تاريخٍ نعتز به ومستقبلٍ نصنعه. في «ترحال»، يصبح الفن وسيلة للتجسير، والسرد أداةً للفهم، والمسرح بيتًا للوطن.