ستظلّ منطقة الشرق الأوسط، التي طالمَا عانت من الصراعات، بوتقةً تتفاعل فيها المصالح الإقليميّة والعالميّة المتناقضة والمتنافسة معًا، وباستقراء التاريخ واستشراف الآتي يبدو أن تفاعل عوامل القوة والأيديولوجيا والتاريخ والجغرافيا سيرسم ملامح مستقبل الدول والجماعات والأفراد فيها، ولهذا لا عجب أن نرى اليوم مشهدًا عجائبيًا متقلّبًا من الرابحين والخاسرين والمتفرجين في كل تطوّرات الصراع. وما هو ظاهر في مسرح الصراع الحالي، أن إسرائيل أُبرزِت بدعم أميركي غربي لا محدود- قوةً عسكريّة مهيمنة، لا سيما بعد تواصل حملاتها المدمرة على غزّة منذ أكتوبر 2023، وإضعاف حزب الله في لبنان وتصفية أبرز قادته، ثم هجومها الجريء في يونيو 2025، على المنشآت الحيويّة الإيرانيّة واستهداف علمائها وقيادتها العسكريّة. ومع أن هذه الحملات الإسرائيليّة المدعومة غربيًا هزّت توازن القُوَى الإقليمي بشكل جذري إلّا أنها أتت بتكلفة باهظة على تل أبيب والغرب عمومًا، إذ لم تعد وسائل الإعلام الغربيّة قادرة على إقناع الرأي العام العالمي بمشروعيّة العدوان (الدفاع) الإسرائيلي الوحشي المستمر على غزّة، بل لقد بات رائجًا وصف ما حصل بالإبادة الجماعيّة، والأهم أن الحقوق الفلسطينيّة ربحت الحرب المعنويّة واستقرت بقوة في الوعي الشعبي العالمي، وفي المجمل ستظل انتصارات إسرائيل في هذه الجبهات المفتوحة انتصارات تكتيكيّة (مُستعارة)، لأنها تُعمّق المستنقع الاستراتيجي للاحتلال وتضع بذوراً كامنة في أرضيّة قابلة لإنبات المزيد من الصراعات والاضطرابات. أما إيران، التي كانت لعقود لاعبًا إقليميًا مؤثرًا، فتواجه انتكاسات واضحة بعد انهيار "محور المقاومة" ثم توالي الضربات الإسرائيليّة والأميركيّة الموجعة في عمقها الاستراتيجي. ومع ذلك، لا تزال القيادة الإيرانيّة تتحدّى، وتعلن عن استمرار طموحاتها النوويّة، وتلمّح إلى فرض شروطها على مضيق هرمز، للحفاظ على أهميتها الاستراتيجيّة. وهنا تأتي روسيا، على ضفاف الصراعات في صورة المتفرج الانتهازي لتجد نفسها في وضع حرج، وهي تتحدّث عن ضرورة البحث عن مخرج دبلوماسي في حين تتمتّع بانصراف الانتباه العالمي عن حربها في أوكرانيا، وتحافظ على توازنها مع دول المنطقة وإدارة ترامب. أمّا الصين فمنتظرة ذكيّة بنظرة بعيدة المدى، فهي لا تغامر بالانحياز في مواقفها في الشرق الأوسط، بل تراهن على الفوز بالمرحلة الاستراتيجيّة الطويلة، عبر الاقتصاد والدبلوماسيّة ومشاريع البنية التحتيّة الكبرى. ولعلّ بكّين ترتّب دورها حاليًا بهدوء لتكون فاعلًا سريع الحضور في أي ترتيب إقليمي جديد، بعيدًا عن الخطابات الأيديولوجيّة والهيمنة العسكريّة. أمّا دول الخليج العربيّة وهي تتطلّع للمكاسب المستقبليّة، فتراقب الأوضاع في المنطقة وتنشط دبلوماسيًا لتعزيز طموحها لبناء نظام أمني جديد قائم على التكامل الاقتصادي وتحقيق السلام، مع الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجيّة بالولايات المتحدة. لكن قضيّة حقوق الفلسطينيين وتجاهل واشنطن لمبادرة حل الدولتين وما يحيط ذلك من تحديات، تمثّل العقبة الرئيسة أمام هذه الرؤية. ولهذا فمع تصاعد التوترات، وتعاظم الأضرار الإنسانيّة والسياسيّة الناتجة عن الانتهاكات الإسرائيليّة، ربما تجد هذه الدول نفسها بين خيارين صعبين: إما مواصلة سياساتها المبنيّة على التهدئة والاعتدال لتحقيق الممكن على حساب مصالحها الاقتصاديّة والأمنيّة، أو الانحياز إلى أحلاف جديدة تسهم في تسريع حل عادل للقضيّة الفلسطينيّة ومنح المنطقة فرصة للسلام والبناء. من جهة أخرى، تأتي تركيا، التي وسّعت نفوذها الإقليمي خلال السنوات الماضية، في وضع المتفرّج الحذر، وهي تتجنّب التصعيد المباشر مع المحور الغربي الإسرائيلي، للحفاظ على استقرارها الداخلي، ومراعاة لحساسيّة وضعها الاقتصادي المتقلب. ولعلّ هذا يفسّر اكتفاء أنقره مرحليّا بتعزيز الخطاب المناهض للسياسات الإسرائيليّة عبر المنظمات الدوليّة، ومنابر الإعلام (الإسلامي) العالمي. وفي الهوامش السياسيّة، يبرز "المنتظرون" من اللاعبين الصغار والكبار في المنطقة، خاصة تلك الدول التي تتعرض لضغوط داخليّة أو هشاشة اقتصاديّة. هؤلاء المنتظرون يراقبون التطورات حتى تصبح معالم المرحلة الجديدة أكثر وضوحًا، دون التضحية بإعلان مواقف جريئة، أملًا في مكاسب مستقبليّة من التسويات المنتظرة. مسارات قال ومضى: في الحرب.. ضجيج حمقى الأنصار كثيرًا ما يعمي الأبصار.