في السنوات الأخيرة، تزايدت التحذيرات العلمية من التأثير المتصاعد للتمويل الخارجي على نتائج الأبحاث، خصوصًا في مجالات مثل الطب، والصحة العامة، والبيئة، والصناعات الاستهلاكية. أثبتت دراسات تحليلية أن الأبحاث المموَّلة من جهات ذات مصالح تجارية أو سياسية تكون أكثر عرضة للانحياز في تصميمها، أو في تحليل نتائجها، أو حتى في اختيار ما يُنشر منها. هذا النوع من الانحراف، الذي يُعرف علميًا ب"التحيز الممول"، لا يُعد تزويرًا صريحًا، لكنه قادر على توجيه المعرفة لخدمة أهداف محددة، حتى لو جاء ذلك على حساب المصلحة العامة. من المهم التأكيد في هذا السياق أننا لا ندعو إلى وقف تمويل الأبحاث أو التشكيك في جدوى دعمها؛ بل على العكس، فتمويل البحث العلمي هو أحد الركائز الأساسية لازدهار المعرفة وتطور العلوم، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم دون استثمار حقيقي ومستدام في مجالات البحث والتطوير. غير أن ما نُحذر منه هنا هو "التمويل الموجه" الذي يصدر عن جهات لها مصلحة مباشرة في نتائج الأبحاث، وتسعى من خلال الدعم المالي إلى توجيه مسار الدراسة أو التأثير على استنتاجاتها. فالدعم في حد ذاته ليس المشكلة، بل المشكلة تكمن عندما يُستخدم كأداة لصناعة نتائج بدلًا من اكتشاف الحقيقة. إن أبرز الدراسات التي وثقت هذه الظاهرة كانت مراجعة منهجية، حيث نُشرت قاعدة بيانات كوكرين للمراجعات المنهجية عام 2017، تحليل خاص ل 75 دراسة قارنت بين الأبحاث الممولة من شركات دوائية وتلك الممولة من جهات أكاديمية مستقلة. النتيجة كانت واضحة، الدراسات الممولة من الشركات كانت أكثر ميلًا لإظهار نتائج إيجابية تدعم منتجاتها، وغالبًا ما تجاهلت أو قلّلت من شأن المخاطر المحتملة. أما الدراسة الثانية، أظهرت دراسة نُشرت في المجلة الأمريكية للتغذية السريرية عام 2025 أن تمويل صناعة لحوم الأبقار له تأثير واضح على نتائج الأبحاث. فبينما كانت 79٪ من الدراسات الممولة تظهر نتائج محايدة و21٪ إيجابية، جاءت 73٪ من الدراسات المستقلة بنتائج معاكسة وسلبية تمامًا. وخلصت الدراسة إلى أن احتمال خروج نتائج إيجابية أو محايدة كان أعلى بأربع مرات عند وجود تمويل صناعي، ما يعزز القلق من تحيّز النتائج بحسب الجهة الممولة. الدراسة الثالثة، في عام 2004، كشفت دراسة منشورة في مجلة الجمعية الطبية الكندية، أجراها الباحث "موهيت بهانداري" وفريقه، أن الأبحاث الطبية والجراحية الممولة من شركات صناعية كانت أكثر احتمالًا أن تُظهر نتائج إيجابية لصالح الجهات الممولة. الدراسة، التي حللت عدداً من التجارب العشوائية المحكمة، سلطت الضوء مبكرًا على الخطر الكامن في "التمويل الموجه"، وأثارت جدلاً واسعًا حول مصداقية نتائج الأبحاث عندما تتداخل فيها المصالح التجارية. المشكلة لا تقف عند مجرد تحيّز النتائج، بل تتعدى ذلك إلى صناعة رواية علمية مزيفة وموازية، تُغلف بأنصاف حقائق وتُقدَّم بلغة أكاديمية تُضفي عليها الشرعية. وهنا تكمن الخطورة! فالقارئ العادي، وحتى صانع القرار، قد لا يملك الأدوات الكافية لتمييز العلم النزيه من "العلم المدفوع". وما يُقدَّم على أنه بحث علمي محايد قد يكون في الواقع إعلانًا مموهًا أو دفاعًا مدفوع الأجر عن منتج أو سياسة أو حتى أيديولوجيا. هذا النمط من التأثير على العلم له أمثلة شهيرة. ففي منتصف القرن العشرين، ومع تصاعد الأدلة الطبية على العلاقة بين التدخين وسرطان الرئة، لجأت شركات التبغ إلى تمويل دراسات تُشكك في هذه العلاقة. لم يكن الهدف تقديم معرفة جديدة، بل خلق شكوك تُربك الرأي العام وتؤخر استجابة صناع القرار. واستُخدم في ذلك كل أدوات البحث العلمي مع أسماء أكاديمية مرموقة، منشورات في مجلات طبية، ومؤتمرات تُغلف الرسالة بأزياء البحث والحياد. ولم يكن الأمر إلا تسويقًا مقنّعًا بمظهر علمي. يتكرر هذا النموذج في صناعة الأدوية. في حالة دواء "Vioxx" مثلًا، وهو دواء مسكن للألم أنتجته شركةMerck ، تبين بعد سنوات من ترويجه أنه يسبب زيادة في خطر الأزمات القلبية. الشركة، كما كشف لاحقًا، كانت على علم بهذه النتائج من خلال تجاربها السريرية، لكنها لم تُفصح عنها بالكامل، وواصلت بيع الدواء إلى أن أُجبرت على سحبه بعد وفاة آلاف المرضى. في عام 2007، وافقت الشركة على دفع 4.85 مليار دولار لتسوية معظم القضايا المتعلقة بVioxx . لم تكن المشكلة في غياب الأدلة، بل في انتقائية عرضها. العلم لم يُزوّر، بل استُخدم لتغليف الضرر بثوب الفائدة. قضية التغير المناخي لا تقل أهمية. رغم وجود إجماع علمي عالمي حول دور الإنسان في التغير المناخي، موّلت شركات نفطية، مثل شركة إكسون موبيل، لأكثر من عقدين أبحاثًا تهدف إلى التشكيك في هذا الرابط. تحقيق نشرته إنسايد كلايمت نيوز، كشف أن الشركة كانت تعلم منذ السبعينيات التأثير الحقيقي لانبعاثاتها، لكنها عمدت إلى دعم مراكز أبحاث تصوغ خطابًا بديلًا، مما ساهم في تأخير استجابة الحكومات وتفاقم الأزمة البيئية. الخطر الأكبر لا يكمن في الأكاذيب، بل في أنصاف الحقائق. فتقارير تموّلها جهات ذات مصلحة قد لا تقدم بيانات خاطئة، لكنها تنتقي ما يُقال، وتُخفي السياق، وتستخدم مصطلحات علمية لإضفاء شرعية على استنتاجات موجهة. وهنا تصبح اللغة العلمية غطاءً للانحياز، ويصبح القارئ ضحية وهم "الحياد العلمي"، بينما هو في الحقيقة أمام رأي مدفوع الثمن. كيف نواجه هذا التحدي؟ الخطوة الأولى هي تعزيز الشفافية. يجب أن تُفصح كل دراسة علمية بوضوح عن مصادر تمويلها، وعن أي تضارب محتمل في المصالح. فالمعرفة لا يمكن أن تكون محايدة إذا كانت مموّلة من طرف له مصلحة مباشرة في نتائجها. والخطوة الثانية هي دعم البحوث المستقلة. يجب أن تُخصص الحكومات والمؤسسات العلمية ميزانيات حقيقية لأبحاث لا تخضع لضغوط السوق أو الشركات. استقلالية البحث العلمي ليست ترفًا، بل ضرورة لضمان سلامة المجتمع وصحة قراراته. أما الخطوة الثالثة، فهي نشر ثقافة التفكير النقدي. يجب ألا نتعامل مع الدراسات العلمية على أنها "حقائق نهائية" لمجرد أنها نُشرت في مجلة أكاديمية، وليس الشك سخرية من العلم بل حماية له. علينا أن نسأل دائمًا، من كتب؟ من موّل؟ من المستفيد؟ هذا النوع من الأسئلة لا يُضعف الثقة في العلم، بل يعززها حين تكون الأجوبة واضحة وصادقة. العلم الحقيقي لا يخشى الأسئلة، ولا يهاب الشفافية. إنما الخطر يأتي من علمٍ يُغلف المصالح بلغة الحقائق. وأختم مقالي برسالة للباحثين في وطننا الغالي، المملكة العربية السعودية، التي اختارت أن تموّل الحقيقة لا أن تشتريها. ففي زمن يُشترى فيه كل شيء، تبقى الحقيقة العلمية بحاجة إلى من يحميها... والمملكة اليوم تؤكد العلم عندنا حرٌ ومستقل. فقد جعلت من دعم البحث العلمي أولوية وطنية في إطار رؤية المملكة 2030، مخصّصة أكثر من 22 مليار ريال سنويًا لتمويل الأبحاث، مؤكدة التزام الدولة بدعم المعرفة بعيدًا عن ضغوط السوق ومتغيراته وتحيز الشركات. ولم يكن هذا الدعم مجرد تمويل، بل جاء مصحوبًا ببناء منظومة مؤسسية متكاملة، تمثلت في إنشاء هيئات ومحافظ تمويل رسمية مثل هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ومعهد بحوث الفضاء والطيران، إضافة إلى مدينة الأمير محمد بن سلمان غير الربحية. هذه الجهات تمكّن الباحثين من العمل باستقلالية وبقوة الدولة، في بيئة محفّزة للإبداع والمنافسة العالمية. كما عملت المملكة على ربط المؤسسات البحثية الوطنية بشركات خاصة وعالمية ضمن عقود تمويل طويلة الأمد، تضمن وضوح الأهداف واستدامة التأثير. كل ذلك يأتي ضمن مساعٍ طموحة لتعزيز تنويع الاقتصاد الوطني، ودعم مشروعات علمية لا تهدف فقط للربح السريع، بل لبناء قاعدة معرفية مستدامة تقود المستقبل.