هل يمكن للفنون أن تكون عملة مصرفية؟ هل للكلمة المكتوبة قوة تُنافس قوة الاقتصاد؟ في المملكة، الإجابة تتجاوز المجرد، لترسم ملامح اقتصاد جديد، لا يُقاس بالبترول وحده، بل بثرائه الفكري والإبداعي، هذه المملكة، التي لطالما كانت أرضاً للكنوز الدفينة، تُشرع أبوابها اليوم على عوالم من الجمال والمعرفة، لتُثبت أن النهضة الحقيقية تنبع من العقول والنفوس قبل الثروات. أصبحت الثقافة شرياناً حيوياً يضخ دماء جديدة في شرايين الاقتصاد الوطني ضمن رؤية 2030 الطموحة، حيث تتحول الفنون والمعرفة والآداب إلى قوى دافعة تُعيد تعريف مكانة المملكة على خريطة العالم، لا بقوتها المادية فحسب، بل بقوتها الناعمة التي تُلامس القلوب وتُشيد الجسور. على خشبات المسارح وداخل دور السينما، وفي معارض الفن ومهرجانات الموسيقى، يُصنع اليوم اقتصاد آخر؛ اقتصاد يتدفق إبداعاً، ويُقدم فرصاً، ويُعيد نبض الحياة لقطاعات كانت نائمة، فمهرجان البحر الأحمر السينمائي ومواسم الرياضوجدة الثقافية ليست مجرد تجمعات ترفيهية؛ إنها محركات اقتصادية ضخمة تُشعل فتيل النمو، وتُنشط قطاعات السياحة والضيافة والتجزئة، وتُعد هذه الصناعات الإبداعية مغناطيساً جاذباً للاستثمارات، ومولّداً لآلاف الوظائف التي تُعلي من شأن الموهبة، من الإنتاج والإخراج إلى التسويق والإدارة الفنية. الجمال والفكر، ها هما يُثبتان أنهما يمكن أن يكونا مصدراً مستداماً للثراء. إنها لغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمة. ففي كل لوحة تُعرض، وفي كل نوتة موسيقية تُعزف، وفي كل فيلم يُنتج، تُرسل المملكة رسالة دبلوماسية أعمق من أي خطاب سياسي، إنها دبلوماسية الفن التي تُلامس شغاف قلوب وعقول الشعوب، وتبني جسوراً من التفاهم والتقدير المتبادل، وتُعزز مكانة المملكة على الساحة الدولية كلاعب مؤثر في نشر السلام والإخاء الإنساني. إنها قوة تُحاور الروح قبل أن تُخاطب العقل. لم تعد المعرفة حبيسة رفوف المكتبات، بل أصبحت تتدفق عبر الأثير، تلامس الأيادي والأجهزة الذكية، لتُعيد صياغة المشهد الثقافي، ففي هذا العصر الرقمي، تتجدد حكاية الكتاب، ليصبح مصدراً لاينضب للتأليف والإبداع والترجمة، حيث تشهد المملكة طفرة في التأليف والترجمة، مدعومة بمبادرات تشجع الكتّاب السعوديين وتُسهم في نشر أعمالهم محلياً وعالمياً، وتُركز على ترجمة الأعمال العالمية المرموقة إلى العربية، والعكس، بهدف إثراء المحتوى المعرفي وفتح نوافذ جديدة على الفكر العالمي. هذا الاهتمام بالكتاب، سواء ورقياً أو إلكترونياً، يُسهم في تعزيز مكانة المملكة كواحة للآداب والثقافة والفنون، ويُقدم رؤية جديدة للعالم للمملكة، لا تُقاس بثرواتها النفطية، بل بثرائها الفكري والإبداعي. لم تعد المملكة تُعرف بآبار نفطها فحسب، بل أصبحت تُعرف بعقول أبنائها المبدعة التي تُنير دروب المعرفة. لا تزال هذه الرحلة الثقافية في بداياتها، وهناك تحديات تتطلب عملاً دؤوباً، من بناء مسارح تليق بالرؤية، إلى صقل مواهب جديدة في كافة مجالات الفنون والمعرفة، وتوفير بيئة حاضنة لكل أشكال الإبداع، إنها رحلة تتطلب مزيجاً من الأصالة الثقافية السعودية والحداثة العالمية، لتقدم للعالم ثقافة متجذرة ومتجددة، قادرة على التأثير والإبهار،هذه ليست عقبات، بل هي محطات على طريق التميز، تُشعل إرادة البناء والتطوير. وهكذا، تُنسج خيوط اقتصاد جديد، لا يقتصر على الأرقام والمؤشرات، بل يتسع ليحتوي على الجمال والروح والمعرفة، لأن بناء اقتصاد الثقافة والمعرفة في السعودية يعد استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز جودة الحياة، وتنمية رأس المال البشري، وبناء مجتمع حيوي، ففي كل معرض فني يُقام، وفي كل كتاب يُنشر، وفي كل لحن يُعزف، تُرسل السعودية رسالة واضحة للعالم، أن المستقبل يُبنى بالعقول، وتُزهر فيه النفوس، وتُقدم فيه الثقافة والمعرفة قصة نجاح لا تُحصى، قصة تتجاوز حدود الجغرافيا لتلامس أفق الإنسانية جمعاء.