في عامٍ ثقافيٍّ تتجه فيه الأنظار نحو ما تصنعه اليد وتحفظه الذاكرة، تمضي المملكة قدمًا في عام الحِرف اليدوية 2025، الذي أطلقته وزارة الثقافة ليكون منصة وطنية شاملة لإبراز الموروث الحرفي، وتعزيز مكانة هذه المهارات كرافدٍ اقتصادي، وثقافي، وتعليمي. لم يعد الحديث عن الحِرف محصورًا في سياق الحنين للماضي، بل أضحى جزءًا من رؤية عملية تستشرف مستقبلًا تُستثمر فيه المهارة، ويتحوّل فيه الإبداع الشعبي إلى مشروع إنتاجي مستدام. مع مرور أشهر على انطلاق فعاليات "عام الحِرف اليدوية"، شهدت مناطق المملكة حراكًا ملحوظًا تمثّل في إقامة معارض، وأسواق موسمية، وورش عمل متخصصة، ومبادرات تعليمية وتوثيقية تهدف إلى إحياء الحِرف المتنوعة، من أبرزها: * السدو والنسيج التقليدي الذي يعكس هوية بادية نجد. * المنتجات الخوصية المستوحاة من واحات الأحساء. * الفخار وصناعة الأبواب الخشبية في الحجاز وجنوب المملكة. * الحِلي الفضية والنقوش التي تنتشر في عسير ونجران. كل هذه الحِرف لا تُمثل مجرد منتجات، بل تحكي قصصًا عن المكان والإنسان، عن الذوق المحلي، والعلاقة المتوارثة بين الحِرفة والبيئة. تعمل وزارة الثقافة والهيئات المتخصصة على تحويل الحِرف اليدوية إلى قطاع حيوي يرتبط مباشرة بالاقتصاد الإبداعي، من خلال: * برامج تدريب وتأهيل تستهدف فئة الشباب. * تمويل مشاريع حرفية مبتكرة عبر برامج دعم. * إدراج الحرف ضمن معارض دولية ومنصات تسويقية إلكترونية. * توثيق وتسجيل الحرف كتراث وطني لدى الجهات الدولية. ويبرز من بين الأهداف الاستراتيجية للعام، تمكين الحرفيين من دخول السوق المحلي، وخلق فرص وظيفية ترتبط بالهوية، مما يجعل من الحِرفة تجربة متكاملة تجمع بين التعبير الفني والمردود الاقتصادي. في ظل العام الثقافي المخصص للحِرف، ظهرت مبادرات تعليمية موجّهة للأطفال والناشئة، تركّز على نقل المهارات اليدوية عبر الورش التفاعلية في المدارس والمتاحف ومراكز الفنون. وقد أظهرت هذه المبادرات أثرًا ملحوظًا في زيادة وعي الجيل الجديد بأهمية هذه المهن، لا بوصفها هوايات، بل بوصفها امتدادًا لهويةٍ وطنية ومصدرًا للإبداع. كما ساهم الحضور المتزايد للمحتوى الرقمي الحرفي عبر مقاطع الفيديو، والبودكاست، ومنصات التواصل في دمج الحِرفة ضمن الحياة اليومية للأسر، خاصة في المناطق التي كانت الحِرف فيها حاضرة ضمن ممارساتها اليومية حتى وقت قريب. عام الحرف اليدوية لا يستعيد الماضي فحسب، بل يؤسس لمستقبل تُعاد فيه صياغة العلاقة بين الإنسان والمادة، بين المنتج والرمز، بين الجمال والفائدة. فالحِرف التقليدية لم تعُد خيارًا ثقافيًا هامشيًا، بل أصبحت جزءًا من خطاب وطني يعيد تعريف الهوية السعودية في زمن التنوع والانفتاح والابتكار. في خضم هذا الحراك، تُستعاد الحِرفة بوصفها عملاً نبيلًا، وفنًا حيًّا، وصناعة ذات بعد اقتصادي وهوية وطنية. والأهم، أنها تعود إلى مكانها الطبيعي: بين الأجيال، في الأسواق، في المناهج، وفي القلب من حركة الثقافة السعودية الحديثة.