شهد موسم حج 2025م نجاحًا استثنائيًا على الصعيد الصحي والقانوني والأخلاقي في مشهد تجلّت فيه قدرة المملكة العربية السعودية على دمج التنظيم الشرعي مع الكفاءة الطبية والابتكار التقني في إطار من الرحمة والمهنية والروحانية واحترام الإنسان. وقد استطاعت الجهات الصحية أن تُقدّم تجربة غير مسبوقة في إدارة أكثر من مليون ونصف حاج. قدّمت وزارة الصحة أكثر من 102,000 خدمة صحية حتى اليوم الثامن من ذي الحجة تضمنت أكثر من 55,000 زيارة لمراكز الرعاية ونحو 27,000 حالة طوارئ و4,970 حالة نُقلت إلى المستشفيات منها 2,262 تم إدخالها إلى العناية المركزة، كما تم إجراء 204 قسطرة قلبية و16 عملية قلب مفتوح بجانب 71 حالة إجهاد حراري اُستُجلب علاجها بسرعة فائقة. علاوة على ذلك تم تقديم الجلسات العلاجية المعتادة للحجاج وكأنهم في بلدانهم مثل جلسات الكيماوي وغسيل الكلى بدقة وتفان، هذه الأرقام مهمة لكن يتجاوز نجاح موسم حج 2025 مجرد قدرة تشغيلية فقد قدمت المملكة منظومة صحية مرنة متقدمة مع تطبيق رصين للقوانين واللوائح الطبية وأخلاقيات مهنية حيّة تُراعي الدين والإنسان. أهم هذه القوانين هو تحقيق حق الرعاية الطبية الشاملة وحق الكرامة وعدم التمييز. وفي مثال من حج هذا العام تم توليد حاجة يمنية في مشعر عرفات داخل مستشفى ميداني بعد دخولها مرحلة ولادة طارئة مما يعكس الاستعداد الكامل للرعاية النسائية ومراعاة كرامة المريضات في كافة الظروف. وفي موقف آخر تم تقديم جلسة غسيل كلى لحاجة باكستانية مخالفة لأنظمة التصريح حيث تم تقديم العلاج الكامل رغم المخالفة النظامية التزامًا بأخلاقيات الإسلام و المهنة الطبية التي تُقدم الحياة، والتزاماً بفتوى المفتي العام باعتبار الحج بدون تصريح مخالفة شرعية لكن الالتزام بالإجراءات الصحية «واجبًا دينيًا». وكذلك تلقى حاج إفريقي فقد وعيه ولم يكن بحوزته هوية علاجًا متكاملًا بمركز طوارئ بمزدلفة دون السؤال عن حالته النظامية التزامًا بحقوق الرعاية الصحية الشاملة و العدالة وعدم التمييز. وفي تطبيق مباشر لنظام الإخلاء الطبي الجديد المعتمد من مجلس الشورى هذا العام والذي يُنظم عمليات النقل الطبي الجوي والبري وفق بروتوكولات السلامة والتخصص تم نقل حاج مصري أصيب بأزمة قلبية باستخدام طائرة إخلاء طبي إلى مدينة الملك عبدالله الطبية ليحظى بحقه في الرعاية الصحية الشاملة من قبل فريق متخصص و يحفظ له حق الأمن و السلامة. في خطوة عالمية أولى من نوعها ومن ضمن الحفاظ على الحقوق الصحية تميّز موسم حج هذا العام بتفعيل منظومة مكونة من طائرات بدون طيار (درون) وطائرات عمودية بالتعاون مع شركة نوبكو لتوصيل الأدوية واللقاحات إلى 6 منشآت طبية ميدانية مما قلص زمن التوصيل من ساعة إلى 5 دقائق فقط ليحظى حجاج بيت الله بكامل حقوقهم الصحية بكل أريحية و رفاهية. كما برز مستشفى صحة الافتراضي كقوة رقمية تقدم استشارات عن بُعد وتُعالج الحالات الطارئة مثل السكتة الدماغية واضطرابات القلب خلال دقائق. فعلى سبيل المثال تم تشخيص حالة جلطة دماغية خلال 16 دقيقة عبر الفيديو مما مكّن الفريق من إعطاء الدواء المُنقذ للحياة في الوقت المثالي دون تمييز ودون تأخير. وفي ثاني تجاربها التكميلية تم استخدام الدرون في إيصال أكياس الثلج لمعالجة الإجهاد الحراري بمعاونة مكة الصحية. ومما يدعو للفخر أن الجهات الصحية نجحت هذا العام في تفعيل نظام مزاولة المهن الصحية حيث تم التأكيد على التحقق من التراخيص المهنية لجميع العاملين الصحيين ومتابعة أدائهم المهني عبر مركز القيادة والتحكم لضمان سلامة الحجاج من أي خطأ أو إهمال. يُعد هذا الموسم نموذجًا سعوديًا عالميًا لإدارة التجمعات البشرية الضخمة استند إلى منظومة متكاملة من الخدمات الصحية المتطورة والتطبيق الدقيق للتشريعات الطبية والأخلاقيات المهنية في مشهد جسّد التحوّل الرقمي والطموحات الصحية للمملكة في ظل رؤية 2030 مما يجعله علامة مضيئة في سجل الإنجاز الصحي السعودي. يبقى هذا النجاح شاهدًا على أن الطب لا يُمارس بمعزل عن القيم وأن التنظيم الناجح يبدأ بأدق التفاصيل. * محامية، وأول سعودية مختصة في القانون الطبي وأخلاقيات الطب