الاستقراء فن ويمكن أن يذكر تحت مظلة المناهج أو الأساليب والطرق العلمية في تتبع الظواهر أو النتاج المعرفي أو العلمي وحتى الفني بما فيه الأدبي، ولكنه ليس نقداً ثقافياً، فحتى المستوى الأعلى من الاستقراء، وهو التحليل الاجتماعي لا يمكن أن يسمى نقداً ثقافياً ما دام لا يبنى على منهج ونظرية. حالة الإبهار في طرح القضايا والمواضيع من خلال أسلوب الاستقراء، وما ينتج عنه من عمق في قراءة التفاصيل وربطها بمنظور فلسفي وعناصر ثقافية مادية ولا مادية تجعل المتلقي غير المتخصص يقبل بأي تصنيف يطرحه الكاتب إيماناً بمتانة الطرح، وسلاسة الأسلوب والتشويق المصاحب لهذه الحالة التي تحتاج إلى مخزون معرفي وقدرة على تجزئة المجزأ بما يشبه التعامل مع نواة المادة وتشظيتها إلى أصغر مكون يمكن الوصول إليه والاستدلال عليه، فالاستقراء فعلياً يحتاج إلى قدرة ثقافية ولغوية وفكرية، وأسلوب ربط متين بين الأجزاء المستخرجة من المادة الخاضعة للدراسة، ورغم هذا فإن الاستقراء ليس نقداً ثقافياً بمعناه المتين المتماسك المنهجي. وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً فإن الاستقراء يقابله الاستنباط، بينما يقابل النقد الثقافي النقد الأدبي في حالة قراءة نص أدبي والتعامل معه من خلال تقنية تحمل داخلها أدوات متعددة، ولو لاحظنا ما يدور في فلك النقد بشقيه الأدبي والثقافي إذا افترضنا جدلاً أن هناك مدارس عربية للنقد الأدبي يقابلها مدارس عربية للنقد الثقافي لوجدنا أن النقد الأدبي حاضر بكل معانيه ودلالاته ومنظريه على مستوى المشهد العربي كاملاً، بينما في حالة النقد الثقافي فلا وجود لمدارس عربية حالية -فيما أعلم- تمسك بزمام هذا النقد وتقدمه بكافة عناصر تكوينه وأدواته -عدا مدرسة الدكتور عبدالله الغذامي التي نادت بنقد ثقافي وكتبت عنه وتبنته وأسست لفكرته-؛ مما جعل تقنية الاستقراء والدراسات الثقافية تُقدم على أنهما هما النموذج الحي للنقد الثقافي، وفي بعض حالات عند دراسة مسألة مشتبكة يقدم النقد الأدبي على أنه نقد ثقافي!! الثقافة مُركب ومَركب في داخله عناصر متعددة متشابكة، وهو وسيلة تمخر بحمولتها عباب محيط متلاطم من المعاني والأبنية الثقافية، وعندما تُربط بالنقد فإنها تأخذ معنا متولداً من هذين الجانبين، فإذا أهمل أحدهما كانت إما استقراء للتفاصيل وإما دراسة ثقافية، وكلاهما مهم وجزء من حقل علمي عام للدراسات الإنسانية والاجتماعية، ولكن غياب المنطلقات التي تشكل منها النقد الثقافي والراسخة في مسارات علم الاجتماع بكافة فروعه تجعل من شجرة النقد الثقافي شجرة على السطح لا جذور لها، لا توشك إلا أن تعطش وتهلك، فالنقد الثقافي عندما يتجه إلى الأدب فإنه يرتكز على متانة علم اجتماع الأدب، ومباضعة المتنوعة في التشريح والتوضيح والربط، وعندما يتجه إلى الثقافة غير المادية يتخذ من المظلة الأوسع علم الاجتماع الثقافي الذي احتضن علم اجتماع الأدب ليكون تحت مظلته، وعندما يتجه النقد الثقافي لقراءة التاريخ فإنه يعود لجذوره الأولى التي صنعت علم الاجتماع العربي وعرابه الأول ابن خلدون مستدعياً أدوات علم اجتماع الأدب الحاضرة في كل أنواع النقد الثقافي، وهكذا هو النقد الثقافي لا يستقرأ التفاصيل فقط بل يرتحل بها في جولة عبر عدة محطات من خلال منهج علمي يحط بها على نظريات واضحة المعالم تستطيع أن تحقق أهدافاً وتجيب على أسئلة.